مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الثاني من أبريل.. اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد.. منارة الحيتان.. دراما (التوحد) عند الأطفال

(حاولت حل بعض المشاكل التقنية، اقتربت من الحيتان القاتلة. دهشت حين لم تعطني هذه الحيتان القاتلة قربها الهادئ فحسب، بل أعطتني صداقتها أيضاً. وبعد التعافي من رهبتي الأولى منها، أنشأنا علاقة غيرت الأهداف المبكرة لدراستي إلى هدف آخر يصل إلى ما هو أبعد من حدود هذه الدراسة الرسمية. فلم يعد ممكناً اقتصار الأمر على جمع المعلومات التي سيتم تحليلها، بل البحث عن تسلسل فكري من شأنه توجيه ملاحظاتي اليومية في اتجاه سام أكبر. لذا، فعبر سنين، أصبحت هذه الحيتان القاتلة عائلتي في البحر، وغالباً بالنسبة لهم، أصبحت صديقهم، الخاص والفريد، على الشاطئ).
كان هذا اقتباساً بتصرف من رواية «أوغسطين، قلب مفتوح» Agustín corazónabierto للكاتب والباحث روبرتو بوباس.
وكُتبت رواية روبرتو بوباس (مواليد 20 أغسطس 1970 في إيسكويل، باتاغونيا، الأرجنتين) بمداد من «التعاطف العميق والسحري مع الحيتان البرية». حيث كان حارساً للمحمية الطبيعية في شبه جزيرة فالديس منذ عام 1992. وهو العام الذي بدأ فيه مراقبة مجموعات الحيتان القاتلة في باتاغونيا، ولاحظ إستراتيجيات الصيد الخاصة بها. وقد أعلنت الهيئة التشريعية في المقاطعة عن مشروع بحثي في هذا الشأن، وحصل روبرتو على منحة دراسية من الجمعية الجغرافية الوطنية. فقام بمراقبة سلوك الحيتان القاتلة لمدة عقدين تقريباً، مضيفاً أكثر من أربعة آلاف ساعة من المشاهدات. لذا يعد روبرتو أحد الخبراء الذين يعرفون الكثير عن هذه الثدييات العملاقة. كما كان مدافعاً عن الحياة البرية، وحقوق الحيوان، وساعياً إلى خلق وعي بيئي عام. وداعياً إلى إحياء القيم الإنسانية التي تحث على الاندماج والتناغم مع الفضاء الحيوي.
وعن روايته تلك، تم إنتاج فيلم «منارة الحيتان القاتلة» El Faro de las orcas أو The Lighthouse of the Orcas 2016.
وهو عمل درامي من إنتاج مشترك بين إسبانيا والأرجنتين. وقام بإخراجه جيراردو أوليفاريس، ومن بطولة: ماريبيل فيردو (في دور لولا)، وخواكين فورييل (في دور بيتو بوباس)، وخواكين راباليني (في دور تريستان)، وآنا سيلينتانو (في دور مارسيلا). وشملت مواقع التصوير مدينة باتاغونيا الأرجنتين، وفويرتيفنتورا إسبانيا. ولأول مرة في تاريخ السينما الإسبانية تم عرض الفيلم في 16 ديسمبر 2016 في جميع دور السينما الإسبانية. وقد تقرر عرضه في الأرجنتين في 13 أبريل 2017 من قبل شركة ديزني، بينما حصلت نتفليكس على حقوق التوزيع العالمية.
دراما الفيلم، ومعاناة «التوحد/ ‏الذاتوية»
يصور الفيلم يوميات الحياة عند حافة العالم على طول ساحل باتاغونيا بالأرجنتين. إنه يحكي قصة حياة حقيقية للباحث روبرتو بوباس أو(بيتو في الفيلم) الذي يدرس سلوكيات حيتان الأوركا البرية. وهو يعيش وحيداً قرب منارة الحيتان. وقد أخذت المنارة اسمها من جنوح حيتان عديدة نحو الساحل. كما يعمل بيتو حارساً لمنتزه شبه جزيرة فالديس الوطني المحمي والمعزول (تشوبوت، الأرجنتين). وهو محب للطبيعة والحيوانات البحرية، وينتهي سحابة أيامه وهو يشاهد الحيتان القاتلة وهي تتحرك نحو الساحل كي تتغذى وتلتقم ما تستطيعه من فقمات وأسود البحر: (لأكثر من عقد من الزمان، قمت بملء العديد من دفاتر الملاحظات بالجوانب المتنوعة لحياة هذه الحيوانات، ولكن الأهم من ذلك، أننا شاركنا شروق الشمس وغروبها والليالي المقمرة ونحن نلعب في عشب البحر أو نرش الماء. لقد حُفِرت هذه الأمثلة الخالدة في ذاكرتي، وربما وجدت الإجابات بسبب هذه اللحظات الخاصة. لقد أعطوني معاً فهماً لهذا المكان الخاص الذي يشغله كل من الإنسان والأوركا ضمن آلية الحياة الهائلة).
وبعد مشاهدة بيتو في فيلم وثائقي عن الحيتان.. تصل من مدريد/ إسبانيا الأم لولا وابنها تريستان (11 عاماً). وتطلب الأم البائسة اليائسة مساعدة الحارس بيتو من أجل إجراء علاج طفلها تريستان المريض. فهو يعاني من قصور حاد في تفاعلاته وعلاقاته الاجتماعية وأنشطته السلوكية - الترفيهية. ولديه ضعف انتباه لما يدور حوله، وميل شديد نحو العزلة. فنشاهده في كثير من لقطات الفيلم «منطوياً على ذاته»، غير مهتم بمحيطه، لا يشعر كثيراً بوجود أمه أو بيتو، أو يُبدي مشاعر التعاطف نحوهما أو يفهم انفعالاتهما. وهو يقاوم التغير ويواجه ذلك بهلع أو انفجار مزاجي. ويتعلق فقط بأشياء بسيطة مثل وسادة معينة أو دمية يحملها معه دوماً. كما تظهر عليه أنشطة حركية زائدة، كالنهوض والجلوس وترك مكانه في غير حاجة. وكثيراً ما يهز رأسه أو يخبطها، ويحرك قدميه، ويديه وأصابعه بصورة رتيبة متكررة. وأحياناً، تبدو عليه علامات إيذاء النفس (كعض الأصابع) أو ضرب الآخرين المقربين منه. وقد شُخصت هذه الأعراض لدى تريستان على أنها بسبب داء «التوحد»/ ‏الأوتيزم (Autism‏).
وقد فضلت منظمة الصحة العالمية (WHO) إطلاق مصطلح «‏الذاتوية» بدلاً من «التوحد» (للمزيد د. ناصر أحمد سنة: الأطفال الذاتويون.. دمج لا إقصاء، مجلة العربي: 617، أبريل 2010، ص: 158 - 163، الكويت).‏ وسنوياً، يصادف الثاني من شهر أبريل، فعالية عالمية: «اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد»، وهو: «انصراف الطفل إلى أفكار ذاتية، وأحلام يقظة وأوهام، مع الابتعاد عن الواقع، وعدم القدرة على التواصل العاطفي والاجتماعي، فضلاً عن تدهور اللغة أو غيابها. هذا مع اهتمامه المكثف بشيء محدد، وافتقاد تجاوبه للأوامر، وطغيان تفضيل ذاته على كل ما في محيطها‏، مما يسبب انعزاله، وعزلته، وظهور اضطرابات سلوكية وعصبية، وحركات لا إرادية تتكرر آليا».‏ وكان ليو كانر Leo Kanner الطبيب النفسي الأمريكي الجنسية، قد أطلق لفظ أوتيزم Autism (التوحد) المشتق من الكلمة اللاتينية Autos وتعني: «الذات - النفس» مسجلاً ملاحظاته عام 1943م حول مجموعة من الأطفال يتسمون: بميل شديد إلى العزلة، وتمركز حول ذواتهم، ورفض التغيير في روتين حياتهم اليومي، مُكررين حركات بعينها، مع فقدانهم القدرة على التواصل مع الآخرين.
علاج تريستان/ أوغسطين
في الواقع، كان الاسم الحقيقي لطفل الرواية هو «أوغسطين» وليس «تريستان». حيث تسرد أمه اهتمامه الكبير بالحيتان القاتلة. وكيف أنه حين شاهد فيلماً وثائقياً تلفازياً عن حياة الباحث بيتو بوباس استجاب له بقوة، واندفع نحو التلفاز عندما رأى الحيتان صارخاً: «أنا، أنا!». لقد تفاعل على غير عادته مع صور بيتو وسباحته ولمسه ولعبه وتواصله مع الحيتان القاتلة. فكان هذا الوثائقي هو الوحيد الذي أحدث عنده «استجابات عاطفية»، بينما نادراً ما يتفاعل مع أي شيء. ومتردداً في البداية، لكن نزولاً على ألم الأم ومعاناتها مع ابنها يوافق بيتو على استضافة الأم وابنها، ومساعدة تريستان. ولمرات يبحر بيتو مع تريستان وأمه على متن قارب للقاء الحيتان القاتلة (متحدياً القواعد التي تمنع لمسها والسباحة معها). ومستنداً على فكرة توظيف الحيوانات كعلاج للأطفال الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد. ويحاول الرئيس المباشر للباحث بيتو طرده لاعتقاده أنه يتجاوز القوانين واللوائح لأسباب شخصية. مما سيؤلب عليه وسائل الإعلام وإدارة المقاطعة، كما سيقلد السائحون ما يفعله من ملامسة الحيتان القاتلة.
ومع مرور الأيام، يبدأ تريستان ببطء في التعبير عن مشاعره، نحو محيطه، ومن فيه. كما ساعده بيتو على التواصل مع الحصان الأشهب الذي يتنقل به الباحث في هذه المنطقة الساحلية الوعرة. فلم يعد يخاف منه، بل يلامسه، و»يطمره»، ويمتطي صهوته مع بيتو ثم منفرداً مستقلاً في نهاية الفيلم. لقد اكتشف الصغير تريستان إمكانيات جديدة لديه ساعدت في لم شمله مع مفردات الطبيعة، وطبائع الأشياء والتعبير عن عواطفه المكبوتة. ولقد تغير سلوكه خلال تلك الفترة التي كان فيها على رؤية واتصال بالحيوانات البحرية، والبرية في آن معاً. وتعلق الطفل بحارس المحمية، كما ارتبط بيتو به واعتبره بديلاً عن طفله الراحل في حادث بحري أليم مع أمه الفقيدة أيضاً. وساعدت تلك الرابطة التي نشأت بينهما على كتابة تلك الرواية الملهمة «أوغسطين، قلب مفتوح». وقد كانت طبيعة حالته المرضية نادرة حتى بين مرضى طيف التوحد التقليديين.
وترتكز الرواية والعمل السينمائي إلى خلاصة مفادها: كما الإنسان، تحتل الحيتان القاتلة مكانة عالية على سلم مخلوقات هذا الكوكب. والفهم الأفضل لطبيعة حياتها وسلوكياتها قد يقربنا من قصتنا أيضاً، ويساعدنا على تصحيح بوصلة وجودنا، وميزان حياتنا. وربما العلاقة التي قامت بين الباحث/ حارس المنارة وبين «الأوركا» تعني شيئاً أكثر من مجرد مثال جدير بالملاحظة للتفاعل بين نوعين من المخلوقات. ولعلها، وقبل كل شيء، رسالة تذكرنا أننا لسنا وحدنا من لنا الفوقية على الكائنات الحية الأخرى. بل نتشارك ونتقاسم معهم نفس الكوكب، وكثيراً ما يفيدوننا حتى في طرق علاج بعض الأمراض. شريطة قبول الشخص للحيوان. فمن لا يحب الحيوانات أو يخاف منها لا يحقق أي فائدة مرجوة.

ذو صلة