مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

ذاكرة محايدة ليس لهـا ظـل

في أحد المقاهي اللامعة التي تتصدر الشوارع بواجهاتها الزجاجية المغلقة، لم تعد كما كانت قديماً -أقصد المقاهي لم تعد كما كانت قديماً- تشغل زاوية من نهاية شارع أو في قمة مرتفع عشوائي أو تتوسط ساحة الحي.. نعم، كانت المقاهي مكشوفة الواجهة، فلا مكان للنوافذ والستائر..
كانت المقاهي مكشوفة وتتصدر واجهاتها.. الطاولات والكراسي الخشبية ذات الأرجل غير المتساوية، والتي تشغلك باهتزازاتها، وأغنية تتقطع بخربشة الراديو الخشبي..
هناك كانت وجوه تعرفها وتألفها وضحكات ونداءات النادل والزبون ودخان الأراجيل، دخان الأراجيل قديماً لا يحجب صوت الأغنية الذي يتقطع بخربشة الراديو الخشبي، ولا الطاولات، ولا الكراسي الخشبية ذات الأرجل غير المتساوية والتي تشغلك باهتزازاتها، وقد لا يحجب حتى قرقعة فنجان الشاي لو سقط من فوق الطاولة، وغالباً لا يسقط فنجان الشاي صدفة، قطعة (الضومنة) التي يرمي بها أحدهم اعتراضاً على خسارته، غالباً، هي من تُسقط فنجان الشاي.. ولا الوجوه ولا الضحكات ولا نداءات النادل والزبون..
دخان الأراجيل قديماً، لا يحجب الأشياء.. نعم، هذا مؤكد دخان الأراجيل قديماً، لا يحجب الأشياء..
أقول: وأنا، الآن، في أحد المقاهي، وأقصد، مقهى لامعاً يتصدر شارعاً بواجهته الزجاجية المغلقة، في منتصف الليل، في هدوء الليل، وفي الهذيان الذي يفرضه الليل..
ومن ضوء لا لون له أو بالأصح لا أعرف اسم هذا اللون، ولا يكتمل على ستارة النافذة، نعم، من ضوء لا يكتمل على ستارة النافذة، قصدت النافذة والستارة اللتين تجاوراني، فهناك الكثير من النوافذ والستائر..
ولا يكتمل على الطاولة،
ولا يكتمل على الأطباق،
ولا يكتمل على صوت الموسيقى،
ولا يكتمل على كوب القهوة المرة،
ولا يكتمل على وجوه يخفيها دخان الأراجيل،
ولا يكتمل على نظرات النادل، النظرات التي تشبه نظرات حكام مباريات كرة القدم، ولكن النادل لا يملك الصافرة ولا كروت الإنذار والطرد، ولكن بيده دفتر لإضافة الطلبات..
أريد أن أتخطى كل هذه العبارات والفواصل..
نعم، نعم، نعم،
أريد أن أتخطى كل هذه العبارات والفواصل..
بهذيان أو بحظ..
ولو تخطيتها، .. لو.. لو.. لو.. لو..
لو تخطيتها.. بهذيان أو بحظ..
وأنا أدندن لحناً يتناغم مع هذياني، مع الوقت، مع القهوة المرة، مع أمنيات طفل..
أمنيات،
جفت،
سقطت،
ذهبت،
ذهبت في مهب الريح..
أحتاج للصمت كثيراً.. كثيراً..
طبعاً، لا أحتاج لدفتر يوميات.
ولا أريد ليومياتي حدوداً ورقية..
غباء أن تكون ليومياتك حدود ورقية،
وغباء أن تفرض للأشياء التي ليس لها ظل، ظلاً.

ذو صلة