مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الخرطوم.. سيمفونية النيل الخالد

وُصِفَت بأنها مدينة السحر والجمال تارة، وبعروس المدائن تارة أخرى، مدينة عريقة تمتد جذورها الضاربة في القدم إلى العصر الحجري.
اشتهرت سياسياً (بلاءاتها الثلاث) في وجه الاحتلال الصهيوني، وجغرافياً (بمقرن النيلين)، وثقافياً (بعاصمة الثقافة العربية).
مدينة ساحرة غاية في الجمال، تَغَزَّل فيها الشعراء والأدباء من كل حدب وصوب، ونظموا فيها روائع الشعر والقصائد والمقالات.
إنها (الخرطوم)، العاصمة السودانية، بوتقة تنصهر فيها الثقافات، وتعكس تنوع أعراق وتقاليد المجتمع السوداني المضياف. مدينة كانت شوارعها إلى عهد قريب تضج بمشاهد وملامح ونكهات الحياة السودانية الفريدة، بدءاً من الأسواق المزدحمة إلى المقاهي النابضة بالحياة.
الخرطوم التي يشتهر أهلها بالدفء وكرم الضيافة وهم ينادون على القريب والغريب، مُلحِّين بمقولتهم الشهيرة (حبابك عشرة)، دلالةً على الترحاب بأيادٍ كريمة وأذرع مفتوحة للجميع بلا استثناء.
إنها عاصمة السودان التي تئن وتنزف دماً لحظة كتابة هذه السطور، بعد أن أحالتها آلة الحرب الى مدينة أشباح تسكنها القطط والكلاب، بعد أن هجرها أهلها بحثاً عن مأوى آمن هنا أو هناك (كما هدد أحد جنرالات الحرب).
لكن بعيداً عن مآسي الحرب وآلامها، دعونا ندلف إلى عالم الخرطوم الساحر، في سياحة عجلى تأخذنا إلى الماضي عبر آلاف السنين، ظلت فيها مدينتنا تنام وتصحو بين أحضان نهر النيل العظيم، تتقاذفها تيارات جارفة مداً وجزراً، ، لكنها ظلت عصية وستظل.
ملتقى النيلين.. قصة عشق وجداني
تقف الخرطوم شاهداً على النسيج الغني للتاريخ والحضارة والثقافة الذي ازدهر في قلب السودان، وتحمل ماضياً زاخراً يعود إلى آلاف السنين، لتأسر القلوب بعجائبها الأثرية وتراثها المتنوع.
وبين الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق من الناحيتين الشرقية والشمالية، والضفة الشرقية للنيل الأبيض من الغرب؛ شُيِّدت الخرطوم (العاصمة)، التي تقع وسط وجنوب القارة الأفريقية، شمال شرقي وسط السودان بين خط عرض 16 درجة شمالاً، وخط عرض 15 درجة جنوباً، وخطَي طول 21 درجة غرباً، و24 درجة شرقاً، على مساحة تبلغ 20736 كيلومتراً مربعاً. ويتراوح مناخها ما بين معتدل في فصل الشتاء، وارتفاع درجات الحرارة في الصيف، مع هطول أمطار غزيرة في فصل الخريف، فيما يفوق عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة، حيث تعد سادس مدينة في أفريقيا من ناحية عدد السكان.
ترقد المدينة الحالمة عند ملتقى النيلين المعروف بالمقرن، وهو مكان التقاء النيل الأبيض العابر من أوغندا والنيل الأزرق النابع من أثيوبيا، حيث يشكلان مجرى واحداً يتدفق شمالاً باتجاه الجارة مصر، منتهياً عند البحر الأبيض المتوسط. والمقرن هو الظاهرة البيئية الأكثر جذباً وجمالاً، والمعلم البارز الذي يميز الخرطوم التي يقسمها النيل بشقيه إلى ثلاثة أجزاء أشبه ما تكون بمثلثات تلتقي رؤوسها عند المقرن وجزيرة توتي، وهذا ما يفسر تسميتها بالعاصمة المثلثة، أو ربما لكونها تضم ثلاث مدن في مدينة واحدة، لكل منها طابع مميز وتاريخ عريق وامتداد جغرافي.
فبينما تمثل مدينة الخرطوم الإرث العمراني والثقل السياسي والاقتصادي؛ تجسد أم درمان (العاصمة الوطنية كما يطلق عليها) البعد العاطفي والنضالي، وهناك تقبع الخرطوم بحري بصخب مصانعها وأسواقها. وتتربع بين المدن الثلاث جزيرة توتي الصغيرة وسط النيل، لتشكل هي الأخرى حضوراً أنيقاً كأناقة أهلها. كالمايسترو تعزف المدن مجتمعة سيمفونية: (أنا الخرطوم.. حبابكم عشرة).
النيل إذن هو القصة، هو صوت الناي في هذه السيمفونية، وأصل الحكاية، على ضفافه ولدت أمّات الحضارات القديمة، وعلى جنباته عاش الإنسان آلاف السنين ينعم بخيراته الوفيرة، ويكرم الضيف، ويمد أياديه للجار في (موسم هجرته إلى الشمال).
عبق التاريخ والحضارة
كما تعد عواصم البلدان مركزاً مهماً لتجسيد الهوية الوطنية والتعبير عن تنوع الثقافات؛ تعتبر الخرطوم بوتقة الحضارات وبوابة الإسلام إلى أفريقيا.
يحكي تاريخ الخرطوم روايات نهضة وسقوط الحضارات القديمة التي ازدهرت يوماً ما على طول نهر النيل. فوفق روايات متواترة، يرجع تاريخ الاستيطان البشري في المدينة إلى العصر الحجري، حيث عثر على أدوات تعود إلى هذا العصر في منطقة خور أبوعنجة في مدينة أم درمان، إضافة إلى بقايا أثرية لمستوطنات يرجع تاريخها إلى عهد مملكتي نبتة ومروي (750 قبل الميلاد إلى 350 ميلادي). وفي الوقت ذاته أثبتت حفريات استيطان الإنسان موقع هذه المدينة منذ 400 عام قبل الميلاد، حيث أشارت إلى أنها كانت موطن حضارة قديمة عُرفت بمملكة علوة.
أما عن الاسم، فقد يتبادر إلى ذهن الكثيرين سؤال (لماذا سميت الخرطوم). فرغم تعدد الروايات، إلا أن الأرجح هو أن التسمية ترجع إلى شكل قطعة الأرض التي تقع عليها المدينة، والتي يشقها نهرا النيل ويتعانقان فيها في شكل انحنائي يرسمان بينهما قطعة أرض أشبه بخرطوم الفيل.
بوابة إلى الحضارات القديمة
تقف (عروس النيل) نسيجاً نابضاً بالحياة، غُزِل بخيوط التاريخ والحضارة والثقافة والآثار. وتحتل الخرطوم مكانة فريدة في وثائق الحضارة الإنسانية، حيث تفتخر بتراث غني لا يزال يأسر العلماء والزوار على حد سواء. وقد لعب موقع الخرطوم الإستراتيجي عند التقاء نهري النيل الأبيض والنيل الأزرق دوراً محورياً في تاريخها باعتبارها ملتقى للثقافات والحضارات.
وباعتبارها عاصمة السودان وأكبر مدنه؛ تعد الخرطوم بوتقة تنصهر فيها الثقافات واللغات والتقاليد. ويتألف سكانها المتنوعون من مجموعات عرقية مختلفة، بما في ذلك الشعوب العربية والنوبية والبجا، ويساهم كل منهم في نسيج التراث الثقافي النابض بالحياة في المدينة. فطوال تاريخها المضطرب، نجت الخرطوم من موجات الغزو والاستعمار والصراع، ومع ذلك فقد برزت شاهداً على مرونة الروح الإنسانية. فمن الحروب المهدية في أواخر القرن التاسع عشر إلى النضال من أجل الاستقلال وتقرير المصير؛ تحكي الخرطوم قصة النضال والأمل في مستقبل أكثر إشراقاً.
أحد أهم الفصول في تاريخ الخرطوم هو ارتباطها بمملكتي النوبة وكوش القديمتين، حيث كانت النوبة، الواقعة إلى الجنوب من مصر، أرضاً ذات ثروة وازدهار كبيرين، ومعروفة بشبكاتها التجارية المزدهرة وإنجازاتها المعمارية الرائعة. ازدهرت مملكة كوش، وهي دولة نوبية قوية تتمركز حول مدينة مروي، في الفترة من حوالي 1070 قبل الميلاد إلى 350 بعد الميلاد، وكان لها نفوذ على مساحات شاسعة من وادي النيل.
تعد الخرطوم بمثابة بوابة نحو كنز من الثروات الأثرية تنتظر نفض الغبار عنها. وتزخر الأراضي المحيطة بها بالعجائب الأثرية التي تقدم لمحات عن ماضي المنطقة العريق، من أهرامات ومعابد النوبة القديمة إلى المدافن الملكية للحكام الكوشيين.
فن العمارة.. القديم المتجدد
رغم أن الخرطوم ظلت على وضعها العمراني القائم منذ تأسيسها قبل 200 ونيف، لكنها تتميز بخطوط معمارية رائعة. وقد شهدت باكورة ازدهارها في القرن العشرين، حيث يظهر فن العمارة المملوكية الإسلامية في مباني الدواوين الحكومية القديمة التي بناها الأتراك، ومن بينها سراي الحكمدار الواقع في المنطقة المحاذية للنيل الأزرق (القصر الجمهوري حالياً والذي شوهت معالمه بفعل الحرب)، إلى جانب العمارة التي شيدت في العهد البريطاني على النسق المعماري الإنجليزي، والذي لا يزال ماثلاً للعيان في الأبنية القديمة المنتشرة بمحاذاة نهر النيل، وقبل التقاء النيلين مباشرة، ومنها كلية غردون التذكارية التي كانت النواة الأولى لجامعة الخرطوم التي عبثت بها آلة الحرب أيضاً، كما لم ينجُ متحف السودان الذي أُنشئ عام 1929، وتم ضمه للجامعة خلال الحرب العالمية الثانية، والذي يحتوي على عينات مُحنطة تعود لمنتصف القرن التاسع عشر.
ومنذ العصور الأولى إلى عصر مملكة كوش، كانت الخرطوم نقطة محورية للتجارة والثقافة والصمود. وفي أوج مملكة كوش (من 785 قبل الميلاد إلى 350 بعد الميلاد)، كانت الخرطوم بمثابة مركز حيوي يربط البحر الأبيض المتوسط بأفريقيا. وقد ترك الحكام الكوشيون، المعروفون بأهراماتهم وحضارتهم المتطورة، إرثاً دائماً في المنطقة، حيث تقف المواقع الأثرية في مروي بمثابة شهادة على عظمتهم. (مروي هي التي أطلقت على أرضها أول رصاصة في هذه الحرب الضروس، ولا يجد أحد تفسيراً لذلك).
على كلٍ، تُقدِّم الخرطوم كنزاً من المواقع القديمة التي تنتظر من يستكشفها. فعلى بعد مسافة قصيرة من المدينة تقع مدينة النقعة القديمة، وهي موطن لمجموعة مذهلة من المعابد الكوشية المزينة بالمنحوتات المعقدة والكتابات الهيروغليفية. وفي مكان قريب، يقف شامخاً جبل البركل، أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو.
حاضنة التراث الثقافي.. هل أصبحت أثراً بعد عين؟
بالإضافة إلى عجائبها القديمة، تعد الخرطوم أيضاً موطناً للمتاحف الحديثة والمؤسسات الثقافية المخصصة للحفاظ على تراث السودان. لكن شبح الحرب ألقى بظلاله القاتمة على الخرطوم، والسودان ككل، مخلفاً سلاسل من الدمار الذي لم يأتِ على البنية التحتية المادية للمدينة فحسب، بل دمر أيضاً تراثها الثقافي الغني وحياة سكانها.
الحرب الجائرة، التي اندلعت في 15 نيسان 2023 (24 رمضان 1444هـ)، تسببت في خسائر فادحة على الخرطوم، مما أدى إلى إغراق المدينة في الفوضى واليأس والدمار، وأصبحت الشوارع والأسواق التي كانت تعج بالحركة في يوم من الأيام خاوية على عروشها، حيث تحولت العديد من المباني التاريخية إلى أنقاض وتشوهت المعالم البارزة، مما دفع البعض لاستدعاء مقولة قديمة نُسبت للشيخ (فرح ود تكتوك)، وهو فقيه ومؤرخ سُوداني رحل قبل ثلاثة قرون تقريباً، تنبأ فيها بنهاية مدينة الخرطوم، تقول: (الخرطوم، تعمر لسوبا، وتتفكك طوبة طوبة)، وكان يعني أنها ستتوسع في العمران حتى تصل ضاحية سوبا المحاذية لولاية الجزيرة جنوباً، ومن ثم يصيبها الخراب.
كان تأثير الحرب على التراث الثقافي في الخرطوم مخيفاً ومأساوياً في آن معاً، فقد تضررت المعالم المختلفة فيه، لا سيما تلك المتعلقة بالتراث الثقافي في الخرطوم، وفي عموم السودان، حيث وقعت المواقع الأثرية والتحف التي لا تقدر بثمن ضحية للنهب والتخريب والإهمال. ونهبت ودمرت المعابد القديمة والأهرامات والكنوز الأثرية التي كانت بمثابة شهادات على ماضي المدينة العريق، مما حرم الأجيال المقبلة من تراثهم الثقافي.
إن فقدان هذه الآثار التي لا يمكن تعويضها لا يحرم الخرطوم من هويتها التاريخية فحسب، بل يمحو أيضاً دلالات حضارات المنطقة القديمة ومساهماتها في تاريخ البشرية.
وإلى جانب الدمار المادي، ألحقت الحرب خسائر فادحة بحياة سكان الخرطوم، حيث فككت المجتمعات المحلية، وتركت كابوساً من الصدمة والمعاناة. تشتتت أعداد لا حصر لها من الأسر، ودُمرت منازلها، وفقدت سبل العيش، حيث تعمل دائرة العنف على إطالة أمد المعاناة واليأس. إن التكلفة البشرية للحرب لا تقدر بثمن، تاركة وراءها جيلاً يعاني من الخسارة والنزوح واليأس والضبابية بشأن المستقبل. وربما تستغرق إعادة البناء عندما تضع الحرب أوزارها عقوداً من الزمن، لكن جراح الحرب ستظل كابوساً يؤرق مضاجع هذا الشعب الطيب الذي لا يستحق غير السلام والأمان.
الخرطوم ليست ككل المدن؛ فهي شهادة حية على التسامح والإرث الدائم للحضارات القديمة ومنارة للثقافة والتراث، ظلت تلهم وتثير فضول أجيال من العلماء والمستكشفين والزوار من جميع أنحاء العالم، كل ذلك يتجسد في تاريخها الغني وثقافتها النابضة بالحياة وعجائبها الأثرية وشعبها المتنوع.
إنها مدينة أنيقة جميلة بجمال أهلها، هي قلبُ السودان النابض بلا منازع، هي بؤرة التقاء الماضي بالحاضر، حيث يحتفي الجميع بالتراث الإنساني المشترك. فهل تعود الخرطوم سيرتها الأولى أم تبقى أثراً بعد عين؟!

ذو صلة