مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي

مما لاشك فيه، أثّر ظهور الذكاء الاصطناعي (AI) على قطاع الهندسة المعمارية وتخطيط المدن بشكل ملحوظ. حيث قدم للمهندسين المعماريين وخبراء التخطيط الحضري أدوات مهمة لتصوّر مستقبل المدن وتشكيلها، وبالأخص لقدرته على معالجة كميات كبيرة من البيانات وإنشاء محاكاة معقدة، الأمر الذي يساهم في تصميم المشهد الحضري بطرق مستدامة ومبتكرة. ومع ذلك، وعلى الرغم من قدراته الملحوظة، يظل الذكاء الاصطناعي عاجزاً عن فهم هويات المدن، وبالأخص المدن العربية، بشكل سليم. في حين أنه يتفوق في توقع الأنماط وتحسين وظائف المدن، إلا أنه يميل إلى تقديم تمثيلات عامة تفتقر إلى التفاصيل الثقافية والتاريخية والاجتماعية التي تحدد هوية المدينة العربية.
وهنا يثبت أن جوهر المدن العربية، الذي يتجذر في تراثها الفريد وتنوع مجتمعاتها وطابعها الأصيل، يشكل تحدياً صعباً للذكاء الاصطناعي في تقديم صورة كاملة عنه. بينما يواصل المهندسون المعماريون وخبراء التخطيط الحضري استغلال إمكانيات الذكاء الاصطناعي. يظل التحدي الرئيسي هو تحسين هذه الأدوات التكنولوجية لضمان أنها لا تتصوّر مستقبل المدن فحسب، بل تلتقط وتحتفل أيضاً بالهويات الغنية والمتعددة وعبقرية المكان genius loci التي تميز كل مركز حضري.
فعلى الرغم من التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي، تظل الصور النمطية للمدن العربية قائمة. وغالباً ما تنتج تطبيقاته صوراً تعكس نماذج نمطية مغلوطة، حيث تظهر المدن كمشهد منظم من الأزقة بألون ترابية، مزينة بأروقة وقبب من عصور مختلفة ومناطق جغرافية متعددة في نفس المشهد، متحدية بذلك الزمان والمكان والفكر المتأصل خلف كل عنصر تم جلبه لاستحضار هذا التصور الذي يفشل في التقاط التنوع والطابع المتجدد للبيئات الحضرية العربية المعاصرة الممتدة جذورها في منظومات شعوبها الفكرية والمجتمعية المتعددة.
تتميز المدن العربية بتاريخ معماري وحضري غني يمتد عبر القرون، وتظهر مدنها اليوم مزيجاً من التأثيرات التقليدية والحديثة على حد سواء. وفي حين يميل الذكاء الاصطناعي إلى تفضيل الصور النمطية، يدرك المهندسون وخبراء التخطيط الحضري الحاجة إلى الغوص أعماقاً في تعقيدات المشهد الحضري العربي، هذا الخليط المعقد من الأساليب المعمارية، من المعالم التاريخية إلى الهياكل المعاصرة، الذي يُسهم في تحديد الطابع الفريد لهذه المدن.
توفر قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلم السريع والتكيف أداة قيمة للمهندسين المعماريين وخبراء التخطيط الحضري لتحدي الصور النمطية وتعزيز فهم أكثر تعقيداً لهوية المدن العربية. من خلال استغلال الذكاء الاصطناعي، يمكن للمحترفين استكشاف العناصر المعمارية والحضرية بعمق، مثل الأنماط المركّبة للتصاميم الهندسية، والتفاعل بين الضوء والظل، والتكامل بين التقنيات المستدامة والمبتكرة.
ولمواجهة الصور النمطية السائدة التي يبثها الذكاء الاصطناعي، يجب على المهندسين المعماريين وخبراء التخطيط الحضري الاشتراك بفاعلية مع هذه التكنولوجيا للتأكيد على تعريف هوية المدينة العربية متعدد الأوجه والأبعاد. ينطوي ذلك على تجميع مجموعات البيانات التي تمثل جوانب هوية المدن العربية المتعددة، بما في ذلك الصور التي تعكس خط الأفق الحضري الحديث، والأسواق المتنوعة، والأماكن العامة الملونة. من خلال توجيه الذكاء الاصطناعي بنشاط نحو تمثيل أكثر دقة مما يمكن للمحترفين تحدي المفاهيم المسبقة والأشكال النمطية المغلوطة، لا بل الاحتفال بالهوية الحقيقية للمدن العربية.
فعلى سبيل المثال، تتميز الهندسة المعمارية والفرادة الحضرية للمدن العربية بتنوع غني يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسعى لتمثيله. كما وتتميز المدن العربية بمزيج متناغم من العناصر التاريخية والعصرية، الذي يعكس التراث الثقافي الممتد. تتداخل التصاميم المعقدة للأسواق التقليدية والأنماط الهندسية المزخرفة المزينة للمساجد والهياكل الهندسية الحديثة الابتكارية لتشكل منظراً حضرياً فريداً. يحمل الذكاء الاصطناعي القدرة على التقاط التنوع في الأساليب المعمارية، من القبب والأقواس الرمزية إلى خطوط الأبراج الحديثة، مما يوضح تطور المشهد الحضري العربي. وعلاوة على ذلك، يتضمن النسيج الحضري للمدن العربية مساحات مشتركة مفتوحة وأسواق نابضة بالحياة وتفاصيل زخرفية ترمز إلى الدفء والضيافة المتجذرة في الثقافة العربية. من خلال استغلال الذكاء الاصطناعي لتجسيد هذه السمات، يمكن للمهندسين المعماريين وخبراء التخطيط الحضري إنشاء تمثيلات تعترف ليس فقط بالجذور التاريخية ولكن أيضاً تحتفي بطابع المدن العربية الديناميكي والشامل، معرضين هويتها الفريدة للعالم أجمع.
وهناك أيضاً القيم الإيجابية مثل الاحترام والكرم والتعاون والتي تشكل أيضاً جزءاً لا يتجزأ من هوية المدينة العربية. ويمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي دور في تسليط الضوء على المشاريع المعمارية والحضرية التي تجسد هذه القيم. من خلال عرض المبادرات التي تعزز الاستدامة والرفاه الاجتماعي والحفاظ على التراث الثقافي، فيمكن للذكاء الاصطناعي المساهمة في إعادة تشكيل هذه التصورات وتأكيد السمات الإيجابية التي تميز المدن العربية.
وفي الختام، علينا أن ندرك أن تقاطع الذكاء الاصطناعي، والهندسة المعمارية، وتخطيط المدن يوفر فرصة فريدة لتأكيد تعريف هوية المدينة العربية المتجذر في أصولها. وبينما يستمر الذكاء الاصطناعي في نشر الصور النمطية، يمكن لقدراته السريعة للتعلم أن تمكن المهندسين وخبراء التخطيط الحضري من تحدي وإعادة تشكيل هذه التمثيلات. من خلال التأكيد على تعقيد الأساليب المعمارية، واستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة تعلم، ورسم الهوية في الترحاب والقيم الإيجابية، يمكن للمحترفين المساهمة في تقديم تمثيل أكثر دقة وشمولاً للهوية الحقيقية للمدن العربية. مستقبل التمثيل الحضري والهندسي يكمن في أيدي الذين يستفيدون من الذكاء الاصطناعي للاحتفال بتنوع وتعقيد هويات المدن العربية.

ذو صلة