مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

هوية عمّان بين الأكروبيلوس والأبراج

تنشأ المدن لتوفر مكاناً لتبادل المصالح الاقتصادية في إطار من التفاهم السياسي والاجتماعي. وبما أن المجتمعات في تحول مستمر، فمن الطبيعي أن تغير طبائعها وبالتالي هويتها. العمارة هي منتوج مادي عُملت لتحقيق وظائف خدمية أو روحية، وتلك الوظائف متغيرة وفقاً للتطور الاجتماعي، فالأهرامات، على عظمتها، لم تعد تؤدي تلك الوظيفة التي أنشئت من أجلها، وقس على ذلك المعابد والشوارع المعمدة (الكاردو والديكومانيس) والمدرجات الرومانية التي تكثر أطلالها شرقي البحر الأبيض المتوسط، فكيف تتعامل معها إدارات المدن، بحيث لا تصبح عائقاً أمام تنفيذ مشاريعها الخدمية واللوجستية، وفي نفس الوقت تستغلها لزيادة الدخل السياحي الذي تعتمد عليه كثير من الدول محدودة الموارد الطبيعية كالأردن.
عمّان عاصمة تحتمل التجديد، ولا يمكن أن تبقى أسيرة للنوستالجيا. ولطالما أصبحت ملابسنا عصرية، وسياراتنا كهربائية، فلا ضير في الانفكاك من قيود الماضي، شريطة أن نواكب التطور التكنولوجي بتوازن يراعي خصوصيتنا البيئية والحضرية والمعمارية.
كيف لباحث أن يكتب عن عاصمته عمّان التي ولد وتربى فيها، وقضى سنيناً طوالاً بين أطلالها بجبل القلعة (الأكروبيلوس) وتجول في معبد هرقل الذي بني في العام 166 ميلادية، وتلمس أعمدته الرومانية المتأرجحة، وتفحص تيجانه الكورنثية المتدلية، هذا الأكروبيلوس الذي لا يبعد عن سكناه المبني بحجر الطبزة سوى أمتار قليلة، كيف له أن يتصالح مع عمارتها وهو الذي تخرج من جامعة الباوهاوس التي نسفت مدرستها مبادئ العمارة الكلاسيكية، وأدخلت العالم بحقبة الحداثة العمرانية. هي تجارب مختلطة قد تفضي إلى التوهان، وفقدان الهوية المعمارية الوطنية.
لقد كانت عمّان من حظنا نحن ورثة هذا الإرث التاريخي العظيم، تلك القرية ذات الألفي ساكن إلى جوار السيل والآثار الرومانية التي اتخذها الأمير عبدالله بن الحسين مقراً لإمارة شرق الأردن في الثاني من آذار عام 1921، ولاحقاً عاصمة للمملكة الأردنية الهاشمية في العام 1950. فما الذي تغيير في هوية المدينة على مدار السنين التي انقضت؟
إن غالبية المدن الأردنية قد نمت من رحم الأزمات السياسية التي عصفت بالمنطقة، حيث كانت البداية مع قدوم الشركس والشيشان، ابتداءً من العام 1888، حيث استوطنوا على ضفاف سيل عمّان بالقرب من المدرج الروماني، فهل جلب الشراكسة معهم هويتهم المعمارية، ولماذا لا نجد بعمّان مبنى واحداً بالطراز الشركسي، لطالما كانوا هم من أيقظها بعد سبات عميق طالت مدته 1970 سنة.
العمارة هي أسيرة بيئتها، فلطالما كثرت الأمطار، وكان لا بد من تصريفها بعيداً عن الأسطح بسقوف مائلة، ازدادت درجتها كلما زاد معدل الهطول المطري، لهذا نجد بأن الأسقف الجملونية في أوروبا قد تعددت أنواعها، وشكلت هوية مدنها، بينما تقل أو ربما تختفي هذه الطرز بالجزيرة العربية التي يندر فيها المطر، فنجد الأسقف الأفقية في عمائر الرياض القديمة، وأبراج اليمن.
وتبين الصور المتوفرة لعمّان القديمة في بداية القرن العشرين بأن المباني التي شيدت من الطين والحجر بالقرب من الآثار الرومانية مستوية الأسقف، تخللها بعض المباني ذات السقوف الجملونية مثل المستشفى الإنجليزي ذي السقف الهرمي القرميدي، أما بيوت الشراكسة، فقد كانت وظيفية بامتياز، مربعة أو مستطيلة الشكل يعلوها سقف جمالوني قليل الميلان، وتخترقها مدخنة. صحيح أن هذا النوع من الأسقف مناسب لفصل الشتاء، إلا إنه يحرم ساكنيه من استغلال السطح بالصيف، وكذلك من التوسع العاموي الذي بات ضرورياً في مدينة التجارة الواعدة التي أصبحت ملتقى لتجار بلاد الشام.
نعم، إن الاستيطان بالوادي يجعل من الأرض الصالحة للبناء سلعة نادرة، يتوجب استغلالها بذكاء، وهذا ما فعله العمانيون عندما تخلوا تدريجياً عن الأسقف الجملونية، مقابل الحصول على أسقف إضافية سرعان ما انتقلوا إليها بالطوابق العلوية، ليخلوا الطابق الأرضي للمحلات التجارية التي سرعان ما انتشرت على طول الوادي، وبنفس مكان الشوارع الرومانية المطمور أسفلها، شارعي الكوردو والديكامنوس المتعامدين.
لقد وجدت المدينة نفسها تنمو بانفلات، تزايد مع قدوم أول موجة من النازحين الفلسطينيين على إثر حرب 1948، حيث قامت السلطات الأردنية بتوطينهم في مخيمات بالقرب من المراكز الحضرية، سرعان ما أصبحت بفعل التوسع في وسطها. وقد أدرك بعض النبهاء بالحكومة آنذاك، بأن البوصلة تشير إلى الفوضى الحضرية، فسارعت الحكومة بالعام 1957 بالاستعانة بخبراء من الأمم المتحدة لعمل مخطط هيكلي للمدينة عرف لاحقاً باسمهم ماكس ولوك Max & Lock اقترح رفع الشوارع فوق الأودية والإبقاء على المنسوب الأرضي كأصابع خضراء Green Fingers ولم يتسنَ لهذا المخطط أن يرى النور.
لقد وجدت مدن التجارة Trading Cities كمكان لتبادل السلع والخدمات، وقد وصل التنافس على الأراضي إلى حد البناء الجائر على الأراضي الزراعية الخصبة المروية بمياه عذبة من عين غزال. لا، بل ازداد التغول على تلك الأراضي الممتدة لعدة كيلومترات على طول السيل، لدرجة البدء بسقف السيل في العام 1962 لكسب ما يقارب 100 هكتار إضافي من الأراضي. واستكمالاً للنهج نفسه، وجد مديرو وأمناء العاصمة، وقد يبدو هذا المصطلح غريباً ها هنا، لأن الأمين يجب أن يكون مؤتمناً على مدينته، لا أن يحولها من مدينة تنمو بجانب السيل إلى مدينة تجثم على مجرى السيل؛ وجدوا أنفسم يأذنون بالبناء العامودي بالوادي.
تسارعت الأحداث لتستقبل المملكة الموجة الثانية من اللاجئين الفلسطينيين بالعام 1967، مما أدى إلى التوسع بالمناطق الحضرية بدون تخطيط، حيث استغل تجار الأراضي هذه الأوضاع، وعملوا على إدخال مساحات كبيرة لحدود البلدية، وقاموا بتقسيمها، مع تخصيص بعض من الربع القانوني للطرقات التي تم وصل بعضها ببعض لتشكل منظومة طرق مشوهة.
إن تراكم التحدي الطوبوغرافي للمنطقة التي انطلقت منها مدينة عمّان مع تسارع التحضر المحكوم بالهجرات القصرية، مع الرغبة في خلق اقتصاد حضري؛ أدى للتخلي عن الهوية المعمارية المحكومة بالبيئة، كما أسلفنا (طراز الأسقف الجملونية) مع الحاجة للتكثيف العمراني بالمساحات الضيقة بوسط البلد، أدى إلى التوجه نحو البناء الكتلي على أراضي صغيرة، وجدت طريقها إلى الجبال المحيطة بوادي السيل. ومما زاد الطين بلة، هو إقرار نظام رخص البناء في عمّان لسنة 1965 الذي استند إلى فلسفة الارتدادات التي سلخت المباني الجديدة عن المفهوم السائد في المدن العربية، ألا وهو نظام الفناء أو الحوش المخصص لكل منزل، تستند فيها الجدران بعضها إلى بعض لتشكل نسيج المدينة العربية.
بالمحصلة، أصبح عندنا نسيج حضري يعتمد على الفراغات بين الأبنية، وكتل متعددة الطوابق يصعب فيها التشكيل المعماري لحاجة كل منها إلى الشبابيك التي تخدم الغرف. وحتى بدون النظر إلى صور الأبنية التي نشأت في تلك الحقبة، فإن الوصف كافٍ لتخيل الطابع المعماري أو الهوية المعمارية التي فرضت على عمّان عند جمع هذه المتناقضات بعضها إلى بعض.
أما وقد انتشرت فكرة التمركز الرأسمالي الاقتصادي بالعالم، وأصبحت الشركات الكبرى تعبر عن قوتها من خلال مبانيها الصرحية، فقد انتشرت معها فكرة منطقة الأعمال المركزية Central Business District وحجزت مكانها بمراكز المدن وعبرت عن سطوتها وقوتها المالية بعمارة البذخ والتطاول بالبنيان. ولم تكن عمّان لتنتظر طويلاً حتى وصلت هذه الأفكار لمخططها الشمولي عام 2007 الذي خصص ثلاثة مواقع للأبراج بعمّان، تم البدء بأولها بالعبدلي على مساحة 35 هكتاراً استغلها المطور بالتكثيف العمراني وبالأبراج الشاهقة التي غيرت شكل خط السماء Skyline بالمدينة وبدلت هويتها.
لقد فرض المشروع حضوره بالمملكة، وأعاد تشكيل الوسط التجاري لعمّان، وبدأت المباني المجاورة بالتأثر بالنمط المعماري الجديد، كما حصل بشارع سليمان النابلسي (شارع قصر العدل) الذي تعايش مع المشروع، وأصبحت المباني على حده الجنوبي تتخلى عن واجهاتها الحجرية لصالح الزجاج الممثل الشرعي الجديد للحداثة.
وعودة إلى ذي بدء، للإجابة عن سؤال تشتت الهوية المحكوم بالظروف السياسية والاجتماعية المتسارعة؛ أجدني متقبلاً للتطور في الهوية المعمارية لعمّان، فالبشرية تتجه نحو العولمة، التي ستأكل من رصيد المحلية. صحيح أن لمدينة عمّان أهمية تاريخية، ولكنها محصورة بوسط البلد الذي يحتمل التجديد الحضري المتعايش مع الآثار، ولكنها عاصمة تحتمل التجديد المعاري إذا ما كان مدروساً ضمن مخططات حضرية مضبوطة، وأنظمة بناء محبوكة.

ذو صلة