مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ما بين الهوية المحلية والصورة الذهنية

جدة البلد برشاقة مبانيها ورواشينها ومشربياتها، الرياض ببرج المملكة وبرج الفيصلية وخزان مياه وزارة الزراعة، عسير بجبالها ومبانيها الحجرية وجمالها الطبيعي وجوها البارد، والعلا بآثار مدائن صالح.
هذه هي الصورة الذهنية لبعض المدن السعودية لدى المجتمع السعودي داخل المملكة، لكن ماذا عمن هم في بريطانيا أو أمريكا أو اليابان أو أي مكان آخر في العالم؟ ماهي الصورة الذهنية التي لديهم عن تلك المدن السعودية؟ ربما جدة التاريخية والعلا هما المدينتان الوحيدتان اللتان تبرزان عن بقية المدن الأخرى عالمياً إلى حد ما، حيث إن عمارة جدة التقليدية ليس لها أي مثل في العالم، كذلك مدائن صالح في العلا، وكلاهما ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو. لكن ماذا عن الرياض، أو عسير أو الطائف أو المدن السعودية الأخرى (ماعدا مكة المكرمة والمدينة المنورة)؟ للأسف لا يوجد بها أي معلم يفرض ذاته في ذاكرة أو ذهن العالم. فناطحات السحاب أو الأبراج موجودة في كثير من المدن خارج المملكة، كذلك الطبيعة والمناخ. هل هذا يعني أن هناك تقصيراً في التسويق لصورة ذهنية عالمية عن الرياض أو عسير أو الطائف.. إلخ؟ أم هذه المدن لا تتمتع بخاصية تفردها أو تميزها عن أي مدينة أخرى في العالم؟
لنعكس الجغرافيا والصورة الآن: ما هي الصورة الذهنية لباريس أو لندن أو نيويورك أو البندقية لدى أي مواطن سعودي؟ بكل تأكيد ستكون برج إيفيل، ساعة بيج بن، تمثال الحرية، والقنوات المائية. وهذه الصورة ليست لدى السعوديين فقط، لكن لأي شخص آخر في أي مكان خارج تلك المدن. ما الذي جعل هذه المعالم تترسخ في ذاكرة معظم سكان الكرة الأرضية؟ بكل تأكيد التسويق، ثم التسويق، ثم التسويق لهذه الصورة، من خلال ما يعرف باسم Branding أو العلامة التجارية أو التسويقية لكل من هذه المدن.
لنبتعد قليلاً عن المدن، ولننظر لأنفسنا نحن السعوديين، عند سؤال أي مواطن سعودي عن أدوات هويته الذهنية، فالإجابة ستكون الثوب السعودي والشماغ أو الغترة والعقال، ربما يضيف العادات والتقاليد المبنية على التعاليم الإسلامية والطعام المحلي وربما الموسيقى الفلكلورية. هل هذه الصورة الذهنية هي المطلوبة للسعودية عالمياً؟ ربما محلياً لها قيمة، لكن دولياً الإجابة (لا) إلى حد ما، على اعتبار أن الطعام التراثي المحلي والفنون التراثية أو الفولكلورية الأدائية كغناء وموسيقى أحد خصائص التميز الحضاري السعودي عالمياً.
في عالم يتنافس على المال والسيطرة الثقافية، هل الأدوات المذكورة أعلاه كافية لتشجيع السياحة والاستثمار والانتقال للعيش في المملكة؟ الإجابة قد تكون نعم، وقد تكون لا، على اعتبار أن مدناً برازيلية كساوباولو وريدو جانيرو نجحت في تسويق (فقرها) العمراني والاجتماعي والاقتصادي والبيئي من خلال إظهار الحياة في مناطقها العشوائية المسماة favelas الخطيرة أمنياً كتجربة حياة مثيرة، مستقطبة بذلك ملايين من السياح الأوروبيين وغيرهم. بكل تأكيد السياح سيأتون لتجربة المعيشة في هذه البؤر، لكن لن يستثمروا فيها، ولن يفضلوا الحياة بها للأبد. وهذه التجربة لازالت في بدايتها، ولو أنها نجحت، فبلا شك دولة البرازيل نفسها لن تستمر في استعراض هذا الفقر عالمياً.
علمياً، وفي علوم العمران، هناك ما يعرف باسم city branding والتي يمكن ترجمتها للعربية بالعلامة التجارية أو التسويقية للمدينة، وهي مسؤولية الجهة الرسمية المعنية بخدمة وإدارة المدينة، وذلك لتسويق المدينة للسياحة والاستثمار. إنه الانطباع الذي تتركه معالم أو منتجات المدينة التي يتم تسويقها من قبل تلك الجهة، فغالباً ما يكون تسويق انطباع المدن بمعالمها المعمارية أو العمرانية الحديثة أو التراثية والأثرية، وذلك بغرض تشجيع السياحة أو الاستثمار بها، وقد يكون التسويق عما تنفرد به المدينة من منتجات كالأبازير أو البهارات (حالة بعض المدن الهندية أو الآسيوية) أو عطور (ميلانو كمثال) أو أطعمة معينة. أو عما تنفرد به المدن من خصائص لحياة أو فرص عمل أفضل (حالة دبي). وأفضل صورة ذهنية هي تلك التي تتكون على مستوى العالم، الأمر الذي يجعل تلك المدينة Global Destination أول وجهة عالمية للسياحة أو الاستثمار أو العمل أو المعيشة. وحسب دراسات، هناك ثلاثة آلاف مدينة في العالم تتنافس من خلال إعطاء صورة ذهنية مميزة عنها، لدرجة أن بعض المختصين أشار إلى أن عدم وجود صورة ذهنية أو branding للمدينة يعني عدم وجود اقتصاد جيد أو عدم وجود سكان، أو أي انطباع سلبي آخر عن تلك المدينة.
الصورة الذهنية الناجحة هي التي تقول عن المدينة (أنا هنا)، ولقد أثبتت دراسات أمريكية أن الشركات التي لها branding أو صورة ذهنية تتميز بزيادة مداخلها المالية 30 % سنوياً مقارنة بالشركات التي ليس لديها صورة ذهنية أو تسويقية. كذلك الأمر ينطبق على المدن، مثل: باريس، لندن، ونيويورك؛ حيث أن الانطباع الذهني القوي التي تعمل الجهات المحلية في هذه المدن على تسويقه عالمياً يجعل سكان تلك المدن فخورين بمدينتهم وراضين عن جودة الحياة بها وأوفياء لها. وللكاتب وقفة هنا خاصة فيما يتعلق بمدينة نيويورك التي تتمتع بصورة ذهنية عالمية قوية لدرجة أن تغطي على سوء الخدمات وضعف الأمن بها، وربما الحال كذلك بالنسبة لباريس التي تشبه بعض أحيائها أحياء مدن في العالم الثالث لتعاسة النظافة بها أو الفوضى العمرانية والمرورية بها.
ما هو المطلوب لعمل صورة ذهنية قوية؟ حسب التجارب الناجحة ورأي المختصين، المطلوب لصورة ذهنية قوية لأي مدينة التالي: التسويق لممتلكات أو ثروات أو أصول تلك المدينة، مثل: الطبيعة، التاريخ، الثقافة، والعمارة. أما الخصائص المتغيرة المطلوبة لصورة ذهنية قوية للمدينة أيضاً فهي: النظافة، الأمن، الاقتصاد (فرص العمل والاستثمار)، التسوق، المواصلات العامة، والخدمات الحكومية. وبطبيعة الحال لن تكون هناك صورة ذهنية قوية لأي مدينة تعاني من تشوه بصري أو غياب مظهر عمراني نظيف وجذاب.
الخلاصة، في سوق الاقتصاد العالمي المعاصر، يجب على المدن السعودية الكبرى التنافس على خلق صورة ذهنية قويه لها، وذلك بالاستغلال والتسويق لخصائصها الطبيعية والتراثية والثقافية والمعمارية، وذلك لكي تستقطب أكبر نسبة من السياح والاستثمارات والأعمال، هذا إذا أرادت تلك المدن أن تصبح وجهات عالمية، وبكل تأكيد يتماشى هذا مع رؤية 2030 إن لم يكن أحد أهدافها أو متطلباتها. والفخر بالهوية التراثية الثقافية المبنية على العادات والتقاليد من حيث الملبس أو المأكل أو الفنون هو أيضاً أمر مطلوب، لكن يجب عولمته. والتسويق ثم التسويق ثم التسويق هو مفتاح هذه العولمة.

ذو صلة