مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

هوية المدن السعودية رحلة البحث عن الكنز المفقود

لندن.. باريس.. غرناطة.. طوكيو.. جدة.. جميعها أسماء مدن تجاوزت مسمياتها إلى هوية بارزة لها، فمن منا لا يخطر على باله مدينة لندن بعراقة مبانيها أو بساعتها الشهيرة أو حتى بسحبها السوداء، أو مدينة باريس وبرجها الشهير ومخبوزاتها الشهية، أو مدينة غرناطة وقصر الحمراء وشجرة البرتقال وتاريخ الأندلس.. أو مدينة طوكيو وتقدمها التكنولوجي وتنظيمهم المتميز وابتكاراتهم لحلول مشاكل حياتهم اليومية، أو حتى مدينة جدة برواشينها، بحرها وابتسامة أهلها.. وقائمة المدن تطول..
عند ظهور أسماء بعض المدن يبرز في أذهاننا أهم الخصائص التي شكلت هويتها، فربما تكون معالمها أو جوها أو حتى طباع ناسها أو مأكولاتهم أو تقدمهم أو غير ذلك من الخصائص التي شكلت لها هوية واضحة تميزها عن بقية المدن حول العالم.
وهو ما ينقلنا إلى التساؤلات التالية: ما هو تعريف المدينة؟ وهل للمدن أرواح؟ وهل مهم أن تكون لكل مدينة هوية؟
لنتوقف قليلاً.. ماذا لو أن كل المدن تمتلك نفس الشيء، ماذا لو فرض قانون عالمي لتوحيد روح واحدة لكل المدن تلتزم بها وتمنع من إبراز نفسها بين أقرانها، هل ستكون الحياة أفضل وأمتع؟ هل هي هذه الحياة التي صنعت لنا؟
لقد سبقنا المولى عز وجل خالق الأكوان عندما قال في محكم كتابه: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
إن الحكمة الإلهية من تعددنا هو التعارف والتآلف والتعلم والاكتشاف ونقل وتبادل المعارف وغيرها من الحكم الربانية التي مازلنا نكتشف نفعها علينا كل يوم عندما نتبنى ثقافة التعددية الثقافية. وهنا تأتي أهمية الحفاظ على هذا الاختلاف لأنها ميزات حبانا الله بها عندما وجدنا على هذه الأرض.
إن دورنا كبشر أن نبني هذه الأرض ونرسم صورة ذهنية جميلة تنال إعجاب كل من يراها، وترتبط الصورة الذهنية لأي مدينة بهذه الخصائص التي تميزها، هذه الخصائص شكلت هوية المدينة والتي لعبت دوراً في ترسيخ انطباعاتنا عن كل مدينة نزورها وتكرار الزيارة لها أو جعلها في قائمة أمنياتنا التي نتمنى زيارتها يوماً ما.. وهنا يبرز تساؤل مهم: ما هي الصورة الذهنية المرتبطة بالمدينة؟ وما هي العوامل التي تحدد هوية المدينة؟ ولماذا تتميز كل مدينة نزورها عن الأخرى؟ ولماذا نرغب بزيارة بعض المدن مرة أخرى، في حين أن بعض المدن لا نرغب بتكرار زيارتها رغم جمالها، وهنا يبرز تساؤل عميق: هل الجمال كاف لجذب انتباهنا؟
عند النظر إلى المدن التاريخية التي تحدث عن خصائصها الرحالة وتصورنا أماكنها من كتب التاريخ، والتي تشوقنا من خلال قراءتنا لهذه الكتب والمذكرات القيمة إلى زيارتها في حياتنا بعد أن استمتعنا بزيارتها في مخيلاتنا، ماذا لو أن هذا الوصف الشيق كان هو المحرك للعواطف للقائها يوماً ما.. ماذا لو أننا حينما بذلنا الصعاب ووصلنا إليها شعرنا بالإحباط.
ما سر هذا الشعور؟
لتفسير هذا الغموض يجب أن نعي جيداً أن هناك محددات تعطي قيمة لأي مدينة وتزيد جمالها لأنها نَظرت إلى المرآة تتفحص قيمتها الحقيقية.. عرفت ما أصلها؟ وما خصائصها المميزة؟ وما عوامل الجذب التي تحظى بها؟ وكيف أختال أمام المريدين لأحظى بإعجابهم وتكرار زيارتهم لي.. ليس ذلك فحسب بل ليصفوا معالمي الجميلة مما تشتاق له الأفئدة.
إن العوامل التي تشكل هوية المدن هبة ربانية، استطاع الإنسان الاهتمام بها وإبرازها وتشكيل سطحها، واحترام أرضها وضَيفها وعرض إمكاناتها المتنوعة.
إن هذه العوامل التي تشكل الهوية تتنوع حسب كل مدينة، فنجد في بعض المدن وقد لعب العامل الديني دوراً أساسياً في تشكيل هويتها مثل المدن المقدسة التي تفرض احترامها للداخلين إليها وتأسر قلوبهم وتغذي أرواحهم، أو كان لديها مخزون من القصص التاريخية العميقة التي ترويها لنا أرضها وشوارعها وأزقتها ومبانيها وأحياؤها، وربما لعبت العوامل الطبيعية والجغرافية دورها في تشكيل هويتها، فنجد تميز مدن بسبب تضاريسها المميزة، أو موقعها الجغرافي أو مناخها وجَوها أو حتى نباتاتها وحيواناتها، وربما تميزت بعض المدن بناسها وطباعهم، بلطافتهم وكرمهم وتقبلهم للآخر وتعايشهم بسلام ومودة، أو بثقافتهم المتنوعة سواء فنون أدائية أو تشكيلية أو ملبسية أو غيرها من الفنون، وحتى أننا نتمنى زيارة مدينة لاشتهارها بطبق تقليدي سمعنا عنه من الكثيرين ممن زاروها، في حين أن بعض المدن تشتهر بإنجازاتها سواء الرياضية أو الصحية أو حتى التكنولوجية، كما أن لجمال عمارة بعض المدن حديث طويل سواء عمارتها المحلية المميزة أو عمارتها المتقدمة المبهرة أو معالمها الشهيرة، والتي شكلت هوية عصرية لها ساعد في صياغتها حاكموها.
إن الحديث عن تشكيل أو اكتشاف هوية أي مدينة يبدأ باستعراض كل ما سبق من العوامل، إن كل عامل من هذه العوامل يفتح باب مغارة لكنز مدفون يمكن أن يكون نقطة قوة لرسم هويتها المتميزة، والتي ستسعى عن طريقها لاستدامتها.
إن رؤية المملكة العربية السعودية أتت بخرائط نحو هذه المغارات الثمينة التي لمسنا أثر تتبعها في السنوات الأخيرة وخرجنا بمدن ذات هوية متميزة تشق طريقها بثبات نحو العالمية.
إن تشكيل هوية المدن يبدأ من الوعي بقيمتها، وابتكار طرق لعرضها على العالم، وهنا يأتي دور الخطط الإستراتيجية بطريقة ملحة لتطوير المدن. إن هذه الخطط التي كنا نسمع عنها في كتب التاريخ، وفي الدول العالمية والتي شكلت مدنها هوية واضحة لها تتطلب دراسة عميقة لخصائص المدن التاريخية والجغرافية والثقافية والعمرانية وغيرها، والتركيز على تشكيل هوية ذات بصمة مميزة تتركها على قلوب كل من يسكنها أو يزورها، لتشكل مصدراً لاقتصادها وتمكينها وتقدمها.
عند قراءة قصص بناء المدن التاريخية نجد أنها رُسمت لها خطط مستدامة، هذه الاستدامة التي شكلت بصمة واضحة قرأناها وتعلمنا منها دروساً لبناء الأرض، فسمعنا عن قصة بناء مدينة قرطبة، ومدينة بغداد والقاهرة، أو حتى مدينة جدة والرياض.
إن المملكة العربية السعودية تتميز بامتلاكها مساحات واسعة وتاريخاً عريقاً متجذراً عبر الزمن وثروات كامنة تحت وفوق أرضها نرى جهود التنقيب عنها على الدوام، من الأجدى لسكان كل بقعة منها البحث عن العوامل المميزة لها واكتشافها للوصول إلى هوية تنفرد بها عن بقية المدن، ولعلنا لاحظنا النقلة النوعية لنتائج هذه الجهود في ظل تعاون كبير على مستوى الطبقات الاجتماعية والمؤسسية تبدأ من الفرد وحتى الجهات الإشرافية والتشريعية الحكومية والخاصة، مما نتج عنه تقدم هائل وسريع ساعد في شق المملكة طريقها بثبات بين مصاف الدول الفريدة والغنية بثرواتها المتنوعة على مستوى دول العالم تغير عن طريقها الصورة الذهنية لها بارتباطها بشكل نمطي بالثروة النفطية يوماً ما، وهو ما نتج عن اكتشاف وإبراز ثروات مناطق كانت بالكاد نسمع عنها، فمن منا لم يسمع عن الجهود المبذولة في منطقة العلا وأثر ذلك على ازدهار المنطقة وتشكيل هويتها أو عن مناطق استحدثت وشكلت بسرعة هويتها مثل مشاريع نيوم وذا لاين.. والقافلة تسير..
وأخيراً أود أن أنوه إلى مسؤولية الأفراد حيث إن إبراز هوية كل مدينة تقع على عاتق سكانها مسؤولية عظيمة إذا رغبنا أن تثبت هويتها للأجيال القادمة. لذلك اسمح لي أيها القارئ الكريم أن أطرح عليك سؤالي الأخير وهو سؤال حيوي مهم: ما هو دورك كفرد يقدر قيمة مدينته لإبراز جمالها وأهلها وثقافتهم في تشكيل هويتها؟ سأترك لك الإجابة، وسأرى نتيجتها قريباً على أرض الواقع بإذن الله.

ذو صلة