مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

رسائل الحب والأدب بين مي وجبران

عرف الأدب العربي في حقبة منه أدب الرسائل الذي تميز بالوضوح والشفافية والبوح، والميل للنقاش وتبادل الأفكار، ورغم أن هذا النوع الأدبي تراجع في ظل تطور وسائل الاتصال المذهل، لكن من تراثنا المعاصر بقيت رسائل الحب بين الأدباء حاضرة بشفافيتها وتوثيقها لمرحلة معاصرة، ومن أبرزها الرسائل المتبادلة بين شاعر المهجر جبران خليل جبران وبين الأديبة مي زيادة، هذه الرسائل التي جمعت في كتاب (الشعلة الزرقاء)، ودامت هذه الرسائل بين الأديبين الكبيرين ما يقارب العشرين عاماً من العاطفة الصادقة المتأججة عند كليهما التائقة لحلم اللقاء، رغم أن التلاقي الروحي والتواصل كان حاضراً فكراً ونبضاً وأحلاماً وأفكاراً متبادلة بينهما.
تعود هذه الرسائل إلى بدايات القرن العشرين، فجبران الكاتب اللبناني الكبير الذي هاجر وصار من كبار كتاب المهجر، إنه يقيم في أقصى مغارب الأرض بينهما (سبعة آلاف ميل) كما قال، أما مي تقيم في أقصى مشارق الأرض بينهما (البحار المنبسطة) كما قالت، مي هذه الأديبة اللبنانية ولدت في الناصرة لأب لبناني وأم فلسطينية عام 1886 تميزت بفكرها المتقد وأدبها وكتاباتها الأدبية التي تدعو للتحرر والنهوض بواقع المرأة، واشتهرت بصالونها الأدبي الذي كان يؤمُّه كبار الأدباء والمفكرين، أمثال عباس العقاد وطه حسين وإبراهيم عبدالقادر المازني ومصطفى صادق الرافعي وغيرهم من أدباء تلك الحقبة الزمنية. ومن المفارقة أن كثيرين منهم كانوا يبادلونها الحب ولكن على ما يبدو كان من طرف واحد، فمي الرقيقة اللطيفة من شدة لطفها كانوا يتوهمون أنها تحبهم، يقول الأديب ولي الدين يكن، معبراً عن عاطفته الكبيرة تجاه مي: (سيدتي ملكة الإلهام، ما أسكت هذا القلم عن مناجاتك إلا حرب الأيام، إنه من أيام كثيرها أسيرها الذي لا يرجى فكاكه، غير أني كنت أناجي روحك كلما بدت لعيني أشياء من محاسن الوجود).
أما إسماعيل صبري أحد رواد صالونها الأدبي فيقول:
روحي على بعض دور الحي هائمة
كظامئ الطير تواق إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غداً
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
وبالفعل كان يوم الثلاثاء منتظراً عند هؤلاء الأدباء الذين سحرتهم مي بلطفها وبشاشتها، ولكن مي العاشقة لم تمنح عاطفتها إلا لجبران، وشاء القدر أن تبقى هذه العاطفة الجياشة من مشاعر الحب والتعلق عبر المراسلات فقط، والكلمات النابعة من قلبيهما العاشقين، بدأت هذه المراسلات عام 1912 بعد أن أصدر جبران روايته (الأجنحة المتكسرة) فأرسلت له مي رسالة تبدي إعجابها بها وتشرح له رأيها فيها، لتتطور الرسائل بينهما بعد ذلك، وتزداد مشاعر التقارب والحب والحنين حيث استمرت عشرين عاماً من تبادل الكلمات العميقة والمشاعر والأمنيات باللقاء. ومن قطوف هذه المراسلات تقول مي في إحدى رسائلها: (ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكن أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب كثير الجفاف القحط واللاشيء بالحب خير من النذر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه؟ لا أدري الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لوكنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام وحتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحياناً لأني بها حرة كل هذه الحرية).
ليكون رد جبران: (يا مي عيدك يوم.. وأنت عيد الزمان.. ما أغرب ما تفعله كلمة واحدة في بعض الأحيان.. إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، تقولين إنك تخافين الحب؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟
أنا أعلم أن القليل في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل نحن نريد الكمال.. الكثير.. لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة).
يبدو الشغف والإعجاب لدى جبران بهذا القلب المحب، الذي يبوح له بالكثير من الرقة والخجل الأنثوي عن حبٍّ صارخ يجول في الأعماق، لتأتي كلمات جبران المحبة العميقة بلسماً لمشاعر الخوف لدى ميّ، فرغم الحيرة ومشاعر الحنين يطلب منها التمسك بهذا الحب الشفيف الراغب بالكمال.
وبالفعل لقد ظلت ميّ مخلصة لهذه العاطفة الجياشة من المشاعر والتي يشوبها شيء من الخجل والوجل والخوف من عدم تحقق هذه الأمنية، نقرأ هذا في إحدى رسائلها لجبران والتعبير عن مدى أهميته لها ولقلبها وروحها: (لكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، إني أنتظر من الحب كثيراً فأخاف أن لا يأتيني بما أنتظر) 15 يناير سنة 1924.
وشاء القدر أن يموت جبران وأن لا يلتقيا إلا عبر الرسائل، فقد توفي جبران في أمريكا عام 1931 ليكون موته نهاية حزينة للحلم الكبير الذي ذخرت به رسائلهما، ليزداد حزن ميّ التي خسرت بموت جبران أملاً كان يملأ دنياها وأجواء روحها حباً وعطاء، لكن بقيت هذه الرسائل المتبادلة بينهما لتكون شاهدة على هذه العلاقة الروحية الهائمة عبر الأثير، الحالمة باللقاء، الطامحة للكمال، ولعل هذا أكسبها قيمتها وعمقها لتبقى من أجمل ما كتب في أدب الرسائل، ومن أرق وأمتع قصص الحب والبوح التي ذخر بها الأدب العربي.

ذو صلة