مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الفرق بين النص والخطاب البعض يرى أنه قائم وآخر ينفي وجوده

إلى وقت ليس ببعيد، لم يدر في خلدي وربما آخرين معي، أن هنالك فرقاً بين النص والخطاب بتلك الحدية الصارمة وتقسمه إلى (أبيض وأسود) ولا شريك لهما. لكن اكتشفت، وإن متأخراً، أن الفارق بينهما كان موجوداً ومألوفاً وقائماً منذ قرون، تحدث فيه تفصيلاً كثيرون عرباً وأجانب ممن قد لا نتذكر أسماءهم حالياً، تلك التي من المؤكد أننا مررنا بها وقرأنا لها كتاباً أو أكثر. هل كبرنا وصعب التذكر علينا؟ يبدو أنه كلما زاد منسوب المعرفي لدى أكثرنا حماسة، طمرت هذه الزيادة الأسماء القديمة في ذاكرته بمعولها، وتكفل النسيان بالبقية، فطمر العناوين والآثار.
إنها سنة الحياة وليس إهمالاً بصحة البدن وعدم العناية بالذاكرة؟
إن الذي علمته هو أن النص شيء والخطاب شيء آخر مختلف، فلا النص يمكنه أن يكون خطاباً، ولا الخطاب بالإمكان أن يكون نصاً، ولكل معاييره ومواصفاته التي يصنف بناء عليها. وعلى هذا استقرت الصورة. لكن ثمة روايات عديدة أخرى تحدثت في هذا السياق، بعضها منسوب لبلاغيين وعلماء متخصصين في الألسنية، ترى عكس ما ذهبنا إليه في المستهل، وتقول إن الخطاب يمكن له أن يكون نصاً، وكذلك يمكن للنص أن يكون خطاباً. لتبقى المسألة بذلك خلافية ومثار جدل. لكن في الأحوال كلها، تبقى المسألة مرهونة بتوفر عناصر بعينها من عدمها، هي التي من شأنها إذا ما اجتمعت، أن تصنع مثل هذا التماهي بين النص والخطاب، والخطاب والنص. ومعلوم أن العنصر - أي عنصر - مهما تضاءلت أهميته وقل وزنه، فهو يصنع فارقاً في تكوين النص والخطاب، بل قد يصنع فارقاً في أي بناء سردي آخر. ولا أدري ما الوضع في الشعر ونصوصه.
هنا يتوجب التعريف بالنص والخطاب ابتداءً، قبل الانتقال إلى عرض مقولات المفكرين واللغويين في الموضوع. ولئلا نصنف في قائمة المغربين ثقافياً وفكرياً، نقتبس من رولان بارت وجاك دريدا ومعجم روس العالمي وغيرهم، ولا نستدعي قبلاً مقولات لأسلافنا من المفكرين ورؤاهم، ممن امتلكوا قصب السبق بمثقال ألف سنة ويزيد من الآن، في المسألة ذاتها محور مقالنا.
ما هو مدعاة للتأمل، الكيفية التي نظر بها مفكرونا إلى الكلام الموجه إلى الناس، فأحد المبرزين من اللغويين واسمه أبو هلال العسكري (395 للهجرة - 1004 للميلاد) يرى أنه (إذا كان موضوع الكلام على الإفهام، فالواجب أن تقسم طبقات الكلام على طبقات الناس، فيخاطب السوقي بكلام السوقة، والبدوي بكلام البدو، ولا يتجاوز به عما يعرفه إلى ما لا يعرفه، فتذهب فائدة الكلام، وتعدم منفعة الخطاب). وكلام كهذا واضح ولا لبس فيه، فكلمة (الخطاب) واردة، وملامحها معرفة.
لنقرأ ما له علاقة بالموضوع ذاته لدى مفكر آخر معروف، هو ابن منظور (1232 - 1311م)، لنجده يعرّف ما يتضح بأن يكون نصاً. يرى ابن منظور إلى كلمة (نص) على أنها (تطلق على نص القرآن ونص السنة). وذلك لما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام. ويذهب أبعد من ذلك تفصيلاً. يقول: إن النص هو قول المؤلف الأصلي الموثوق به، وهو ما يتميز عن الشروح والتفاسير والإيضاح. مثال قولنا (ذكر فلان ما نصه.. وكتب فلان ما نصه كذا وكذا). ابن منظور يلمّح هنا إلى أن النص هو ما ألّفه كاتبه الأصلي، بعيداً عن الشروح والتفاسير والإيضاح، تلك التي قد تكون هوامش أو تصاحب النص الأصلي، لتشير إلى بعض ما استغلق فيه من معنى وتعسّر فهمه، أو إلى ما اضطرب فيه من أسلوب فأثر سلباً في قوة إيصال الفكرة بكامل المنفعة.
الخلاصة الأولية التي يمكن التوصل إليها، وباقتضاب، هي أن الخطاب يمكن أن يشترك في كتابته أكثر من كاتب أو جهة، ويحمل عناصر اجتماعية ومكانية وزمانية، وشؤون عصرية ورسائل محددة، وجمل مشحونة بالمنفعة، الأمر الذي يجعله مختلفاً عن النص ومفارقاً له من حيث محمولاته ورساليته، فالأخير - أي النص - لم يُكتب حين كتب وفي ذهن كاتبه تلك المحمولات التي كانت في ذهن كاتب الخطاب، الذي غالباً ما يوجه إلى الأمة أو الشعب أو أية مجموعة من الناس سواء جمعها جامع مشترك، أو، كانوا غير متقاطعين.
إن محددات الاستقبال لدى المتلقي، كما يتخيلها كاتب الخطاب ويريدها، هي غالباً ما تكون غائبة تماماً عن ذهن كاتب النص الأدبي خاصّة، وعلى هذا الأساس، لا تجوز مقارنة النص بالخطاب.
في حال ذهبنا إلى المقلب الآخر ابتغاء المثاقفة.. إلى ثقافة الآخر. حيث المنظر الاجتماعي والناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت ( 1915 - 1980)، الذي درّس، إلى جانب جامعة السوربون، في جامعات كل من بوخارست والقاهرة.
يرى بارت في كلمة (Text) الإنجليزية أنها تعني (النسيج) وتدل على عمليته. والكلمة في الأصل مأخوذة من كلمة إنجليزية أخرى هي (Texter) وتعني النسّاج. يقول بارت عن دلالة كلمة (النسيج): هو نتاج وستار يختفي وراءه المعنى. وشبّه نسج النص بأنه نسج عنكبوت لبراعة نسجه وتماسكه (حياكته)، بحيث يتعالق بعضه ببعض. بمعنى ترابط مكوناته وتشابكها على نحو يشكل وحدته الكلية - وحدة النص.
لكن ثمة من خالف بارت في هذا المفهوم، هو المفكر العربي عبدالملك مرتاض، فهو يعترض على تقابلات رولان بارت. كمصطلح النص مقابل المصطلح (text)، ذلك أن الأصل العربي للنص هو (الرفع والإظهار وبلوغ الغاية). ويعطي مثالاً على ذلك من عصر ما قبل الإسلام، وهو بيت الشعر التالي من بحر (المتقارب)، للشاعر طرفة بن العبد البكري:
وَنُصَّ الحَديثَ إلى أهلهِ
فإن الوثيقةَ في نصِّهِ
يرى بعض اللغويين المهتمين بسياقات كهذه، إلى أن (الخطاب هو الكلام المنطوق، أما النص فيمكن أن يكون منطوقاً ومكتوباً)، أبرزهم سعيد يقطين في كتابه (من النص إلى النص المترابط). وكذلك يمكن النظر للاستزادة إلى كتاب سعد مصلوح (من نحو الجملة إلى نحو النص).
كما أن الكثير من اللغويين والنحويين العرب، يعتقدون أن الخطاب هو ذاك الذي يحتوي على عنصر التوجيه الذاتي أو ما يسمى بالقصدية والتواصلية؟ وهذه تبدو حقيقة. للمزيد يمكن النظر في كتاب خالد حسين دلكي الموسوم بـ(البعد البراغماتي لنظرية تحليل الخطاب). في تأمل آخر قد يُعين على عملية التمييز بين النص والخطاب، محتوى وأسلوباً، هي المقولات القديمة التي درجنا على استخدامها، ومنها: لكل مقام مقال، ومراعاة المقال لمتقضى الحال. فهي من المقولات التي تتطابق مع الخطاب أكثر منها مع النص، خصوصاً إذا ما تحرى الناقد مدى إسهام العناصر المجتمعية في تكوينات مثل هذه الجمل والأمثال التي شاعت وتكررت في مجتمعاتنا العربية.
ويبقى السؤال: هل صحيح أن كلمة (النص) مستحدثة وفدت إلينا حديثاً، نحن العرب، عن طريق التراجم من الدراسات الأدبية الأجنبية؟ الجواب: نعم. قال بذلك عدد من المفكرين العرب اللغويين والنحويين تحديداً.
ختاماً، يجدر القول إن مسألة لغوية - نحوية - لسانية كالتي بسطنا جوانب منها، كتلميحات أساسية، تحتاج في الحقيقة إلى هضم مفهومها هضماً كاملاً، بحيث يمكن للمرء لاحقاً من إنتاجها وتصديرها على نحو شاف كاف، أو التحدث فيها وحولها إن شاء حديث الواثق، ومن ثم تفصيل مقاربته تلك التي أوصلته إلى فهمها، ومكّنته من ناصية حقيقة الفارق بين النص والخطاب، والخطاب والنص. على أنه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن عملية نقدية بحثية تنبني على ما تقدم، طريقها لن تكون سهلة ممهدة، لا مشكلة فنية فيها أو أكثر تعترضها. كما ينبغي التذكير ههنا بمشكلة باتت معلومة لكثير من النقاد والكتاب المهتمين. وهي إنه إذا جرى تقديم أي موضوع لغوي - لساني نحوي - بالغ الأهمية وله صلة بمفهوم الحداثة، جرى تقديمه وبسطه ونقده بأدوات تقليدية متهمة أساساً بالقدم (بمفهوم العتيق منتهي الصلاحية). فتلك ستكون حقاً مشكلة لا ينبغي الاستهانة بها، كونها تشكّل مصدر خشية لدى الباحثين الجادين، من أن تأتي النتائج على غير ما كان يتوقع لها. وتلك قصة لها مقام آخر.

ذو صلة