مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

من الواقعية الفلسفية إلى الواقعية الأدبية الرقميــــة الافتراضيـة

تطورت دلالة مصطلح (الواقعية) عبر العصور التاريخية السالفة إلى يومنا هذا، فكل علم يضع لها تعريفاً اصطلاحيّاً يخصها، إلى جانب تنوع نظرة المترجمين على اختلاف جنسياتهم، فهناك (اضطراب كبير في مفهوم هذا المصطلح، ليس عند العرب فحسب، لكن عند الغربيين أيضاً)، ومن ثمَّ، سيتوقف الباحث مع المصطلح حسب الاتجاه المعرفي له، كما يلي:
أولاً: مفهوم الواقعية
يتنوع مفهوم الواقعية بتنوع العلوم التي تتناوله، إضافة إلى تنوع طباع البشر، وطبقاً لهاتين الوجهتين، فإنهما يرتكزان فيما يلي:
الوجهة الأولى مفهوم مصطلح (الواقعية) في العلوم:
لم يتفق العلماء على تعريف محدد للواقعية، وذلك لاختلاف الحقل الذي يدرس فيه مصطلح الواقعية، فتعريفها يختلف من علم لآخر، كما يلي:
-1 مفهوم مصطلح (الواقعية) في الفلسفة:
لقد سبقت الفلسفة العلوم كلها بالتوقف عند مفهوم الواقعية، حيث كانت الفلسفة أسبق من الأدب في استخدام مصطلح (الواقعية) وتداوله بزمن طويل، وإن كانت تضفي عليه دلالة تختلف عن المفهوم الأدبي إلى حد كبير، ومن ثّمَّ فإن الفلاسفة تناولوا المصطلح، عبر اتجاهين، كلٌّ له وجهته الخاصة في التعامل مع المصطلح تبعاً للمفاهيم والأفكار، ففي الفلسفة نجد الاسمِيِّينَ (الظاهراتيين) الذين ينكرون وجود المعاني والمفاهيم المجردة الكلية، يرون أن مصطلح (الواقعية) مجرد اسم مثل سائر الأسماء، عكس المثاليين الذين يعدونه دالاً على واقعية الأفكار المجردة ووجودها بالفعل، ولذلك اختلفت نظرة القدماء إلى الواقعية بالنسبة لعلاقتها بطبائع البشر، واتخذتها أساساً في تقسيمها إلى مثالية وواقعية.
-2 مفهوم مصطلح (الواقعية) في علم السياسة:
يتباين تعريف الساسة لمصطلح الواقعية، إذ هو نابع من طبيعة مسؤولياتهم تجاه الشعوب في عدم تدخل الشعب في شؤون إدارة الحكم، فمما لا شك أن ثبوت الواقع السياسي وعدم تغييره إلا من قِبل الساسة والمسؤولين أمر لا غرابة فيه، فالواقعية عندهم تعني (القبول بالأمر الواقع والاعتراف بالأوضاع السائدة، فالواقعية هنا مرادفة للسلبية والاستسلام)، ومن ثَمَّ عدم تدخل المواطن فيما لا يخصه، فعليه أن يتقبل الواقع كما هو، بسلبياته وإيجابياته، ولا يتدخل برأيه أو وجهة نظره.
-3 مفهوم مصطلح (الواقعية) في الأدب:
إن أهم وقفة مع (مصطلح الواقعية) هي نظرة الأدباء إليه في تعريفه وطبيعة تناوله في الدرس الأدبي، ولهذا يمكن إجمال تعريفهم للمصطلح بأنه (يقصد به أحياناً ملاحظة الواقع وتسجيل تفاصيله وتصويره تصويراً فوتغرافياً حرفيّاً وإبعاد عنصر الخيال المجنح وتهاويله، ويقصد به أحياناً أخرى الحيادية أو الموضوعية الصارمة التي تمنع تسرب أفكار الكاتب وعواطفه ومزاجه الذاتي إلى أعماله الأدبية)، وبذلك اختلفت وجهة نظر النقاد الأدبيين إلى المصطلح، فمنهم من تعامل مع الواقعية بموضوعية، خالية من العاطفة، ومنهم من تعامل معها متأثراً بأفكاره وعواطفه. وسيتضح معناها أكثر عند التوقف مع اتجاهات الواقعية، ومنها سيظهر بوضوح أتباعها وأهم أفكارهم الواقعية.
ثانياً: اتجاهات الواقعية
تختلف اتجاهات الواقعية حسب النظرة إلى نوعية الواقع الذي يتعامل معه أصحاب كل اتجاه، حيث إن (الواقع الاجتماعي قد أفرز الواقعية الاجتماعية بأنواعها، والواقع النفسي عند ظهوره قد أفرز الواقعية النفسية، والواقع السحري العجائبي قد أفرز الواقعية السحرية)، ولهذا، سيتوقف الباحث عند أهم الاتجاهات الواقعية على اختلاف أنماطها ورؤيتها، كما يلي:
-1 الواقعية الاشتراكية الماركسية:
ترجع الواقعية الاشتراكية إلى رائدها (ماركس) في أواسط القرن التاسع عشر، فقد اعتنق (ماركس) بعض الأفكار والمعتقدات، وأخذ يبثها في الناس لتكون واقعاً فعلياً، فقد (أكد ماركس أن الفلسفة ظلت تأملاً محلقاً وحان الوقت الذي ينبغي أن تنشغل فيه بالعالم الفعلي)، وبهذا ظهرت بصمات ماركس وعدم تسليمه لأفكار من سبقوه، وأخذ بمصطلح (الواقعية) نحو الواقع الفعلي والتغيير العملي بالتعامل معه بنظرة مادية بحتة.
وبالنظرة إلى طبيعة الواقعيين الاشتراكيين في تعاملهم مع النصوص الأدبية وغيرها، فقد اتسمت بالكشف عن الإيجابيات والسلبيات معاً، فقد (عالج الواقعيون موضوعاتٍ تاريخيةً في قصصهم ومسرحياتهم، فقاموا بتقديم روح العصر بتفاصيله الداخلية والخارجية)، فالواقعيون الاشتراكيون (يرون في الواقعية تفاؤلاً وإيجابية وعدم يأس من الخير عند الفرد وفي المجتمع)، ورغم هذا لم يقبلها المتلقون بتفاصيلها جملة واحدة، وإنما اختلفت وجهاتهم تجاهها.
وقد تلخصت تلك الوجهات إلى ثلاثة اتجاهات، فريق تمثلها (بتقديس مبادئها والالتزام الحرفي بها، إلى اتخاذها ديناً، وفريق ثانٍ رفض كل صيغ الواقعية، ليثبت حريته في الاختيار وقدرته على التمرد، وفريق ثالث احتفظ منها بالجوهر، دون أن يتورط في الالتزام الحرفي بالجانب السلبي منها)، ولعل الفريق الثالث هو أفضلهم، لأنه أخذ من الواقعية الاشتراكية ما يفيد وترك ما يضر.
-2 الواقعية النقدية:
تعد الواقعية النقدية أحد اتجاهات الواقعية التي تصور المجتمع بأنه واقع شرير، فهي ترصد كل وجه للسلبية والشر دون الإيجابية والخير، ولذلك سميت بـ(النقدية)، لأنها (توجهت توجّهاً نقديّاً، تصف فيه المجتمع كما هو دون أن تبحث في الحلول المناسبة)، ولهذا فإن (الواقعية النقدية في الأدب معناها الكشف عن الواقع الحقيقي لنفوس الأفراد وحياة المجتمع، وهو واقع، فقد كان كُتَّاب هذا المذهب يؤمنون بأنه واقع شرير)، وهذا يتنافي مع طبيعة الأدب الذي يصور الواقع بكل تفاصيله السلبية والإيجابية، فليس الواقع قاتماً كما عبروا عنه في نتاجهم الأدبي على اختلاف أجناسه.
ومن الأدباء الذين ينتمون إلى هذه الواقعية النقدية، ولهم أعمال أدبية عبروا فيها عن هذا الاتجاه الواقعي، بما فيه من قصص ومسرحيات الواقعيين، أمثال (بلزاك) في مجموعته القصصية (الكوميديا الإنسانية)، على سبيل السخرية، لأنها في حقيقتها مأساة الإنسانية، وأمثال (هنري بك) صاحب مسرحية (الغربان) وأمثال (توماس هاردي) في قصته المخيفة(تس سليلة دربرفيلد)، وهؤلاء بلا شك لن يكون لهم تقبل لدى المتلقين، فاختلاف طبائع الناس يميل إلى الإيجابية لا إلى السلبية والشر وحده، كما صوروا الواقع الشرير فحسب.
-3 الواقعية السحرية:
لم تكن الواقعية السحرية وليدة العصر الحديث، وإنما ضربت بجذورها عبر التاريخ في تراثنا العربي، إذ إن هناك جذوراً تراثيةً كثيرة للواقعية السحرية العربية، تمثلت في: (ألف ليلة وليلة، كتاب التيجان في ملوك حمير، السير الشعبية، عجائب الهند، رحلة السيرفي، قصص الأنبياء، قصص القرآن، كتاب الأغاني...)، وقد استخدم مدلولها عبر العصور حتى القرن العشرين، حتى ظهر المصطلح مُسْتَوٍ على سوقه على يد الكتاب الغربيين، إذ شاع مصطلح الواقعية السحرية في الثمانينات من القرن العشرين، فاستعمال المصطلح يرجع إلى عام (1925م) لدى الفنان التشكيلي الرسام (فرانز روه) للدلالة على الخروج عن العالم المألوف من رموز وأشكال، ومن خلال ما سبق يتضح أن المصطلح قديم الاستعمال دلاليّاً، حديث التسمية مصطلحاً.
وقد اشتهر عدد من الأدباء الغربيين والعرب بالكتابة في هذا الاتجاه الواقعي السحرية، فمن الكتاب الذين اشتهروا بتوظيف تقنية الواقعية السحرية، الإيطالي إيطالو كالفينو (1923-1985م) والإنجليزي جون فاولز (1926م) والألماني غنتر غراس (1927م) وغيرهم، هذا إلى جانب ظهور مجموعة من الأدباء العرب الذين عدوا من رواد الواقعية السحرية، فكان من أشهر الروائيين العرب الذين كتبوا فيها نجيب محفوظ (2006م) وخيري شلبي (2011م) وغيرهما، وبهذا تلقى العرب قديماً والغرب حديثاً لهذا المصطلح ووظفوه في الدرس الأدبي، واشتهر منهم أدباء كثيرون بهذا الاتجاه الواقعي.
-4 الواقعية الطبيعية:
يرجع ظهور مصطلح الواقعية الطبيعية إلى القرن العشرين، حينما تطور التيار الواقعي حتى انتهى إلى (إميل زولا) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى مذهب الطبيعة، الذي لا يكتفي بالملاحظة، وقد صاغ (إميل زولا) منهجه في كتاب سماه (القصة التجريبية)، ولم تكتفِ بالتوقف عند التجارب وحدها، وإنما (ذهبت إلى أن الطبقة الفقيرة أو العناصر الدنيا هي بيت الداء، فراحت تبين آفاتها، وبذلك اختارت الواقعية الطبيعية من الواقع أسوأ ما فيه ومن الحياة شر عناصرها)، وبهذا اكتفت الواقعية الطبيعية على الجانب العلمي، إلى جانب تفنيدها لأنماط الواقع السلبي للمجتمع، خصوصاً الطبقة الفقيرة، فهي بذلك واقعية علمية أرستقراطية.
ثالثاً: مصطلح (الواقعية الافتراضية)
يعد مصطلح (الواقع الافتراضي) من المصطلحات التي واكبت ظهور التكنولوجيا المعلوماتية الحديثة، مما أدخل الأدب على اختلاف أجناسه طور الرقمية التفاعلية بواقعية افتراضية، من مسرح، شعر، قصة...، وظهرت أجناس أدبية عدة، أولها الرواية الرقمية التفاعلية، على يد رائد الرواية الرقمية التفاعلية محمد سناجلة 2001م، ثم توالت الأجناس الأدبية الأخرى، كالشعر الرقمي التفاعلي على يد د.مشتاق معن عام 2007م، فلم يبق جنس أدبي إلا ودخل حقل الرقمنة التفاعلية عبر وسيط الواقع الافتراضي، وبهذا تطورت الواقعية حسب معطيات كل عصر ومصر.

ذو صلة