مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الشعر زهرة النكروفيليا

| في محبة الحياة أو محبة الموت يكمن الخيار الذي يواجه كل إنسان |
إريك فروم


يعرف إريك فروم النكروفيليا بأنها (الانجذاب العاطفي إلى كل ما هو ميت، ومتفسخ، ومتعفن، إنها الشغف بتحويل ما هو حي إلى شيء غير حي). وهذه الظاهرة ليست أصيلة بيولوجياً في التكوين النفسي لدينا، كما هي غريزة الموت عند فرويد، ولكنها تظهر نتيجة الشلل النفسي للحياة غير المعيشة. أي إلى تحويل الإنسان إلى أداة تخدم أدوات أخرى، حيث لا حد للتدميرية سواء تعلق الأمر بحرب نووية مثل ما حدث في هيروشيما، أم عن طريق التدميرية التقنية التي تقوم بإقصاء المعرفة العاطفية لما يفعله المرء. بينما يعتقد تيري إيجلتون أن العنف يستمد قوته التدميرية من الثقافة التي تسعى إلى إخضاع الطبيعة بوحشية يتم صقلها وتبريرها بهيئة مألوفة وحليفة للنظام الاجتماعي، كما يتم إنشاء الجيوش بدعوى أنها قوة تحمي وتحافظ على الإنسان والأرض والحضارة، في حين أنها تمارس الإرهاب ولكن على نحو متحضر برتب عسكرية وشعارات، وهنا يقف فروم على ضرورة الاعتقاد بالشرط الإنساني الذي يشكل عاملاً حاسماً في تحديد إمكانية تقرير الإنسان لمصيره، (فليس التاريخ هو الذي يصنع الإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع نفسه في العملية التاريخية).
ويعتقد فروم أن التدميرية ليست فطرية في الإنسان، وقد كانت موجودة في حدها الأدنى لدى إنسان الكهوف، بينما تزداد هذه الظاهرة مع تطور التقنية وفي أكثر بلدان العالم تطوراً. وفروم هنا يخرج عن نظرية فرويد في كون (الليبدو) هو المسؤول عن كل العواطف البشرية، ورأى أن (العاطفة) قد تكون أحياناً أقوى من الغرائز، وهي التي تشكل أساس اهتماماته بالحياة، والفن، والدين، والأسطورة وما يجعل الحياة مستحقة للعيش. (إن الإنسان لا يستطيع العيش بوصفه ليس سوى شيء، حجرة نرد ألقيت في فنجان، وهو يعاني بشدة بالغة عندما يختزل إلى مستوى آلة إطعام وتناسل). وهو هنا ينكر أن يكون الإنسان مشبعاً بالحاجات العضوية للبقاء، ويرى أن العاطفة في مساواة مع الرغبة بالحياة، فنحن لا نجد أناساً ينتحرون لعدم حصولهم على الإشباع الجنسي، لكنهم يفعلون ذلك لإخفاقهم في تحقيق عواطفهم. (الإنسان ينشد ما يحرك النفس ويثيرها، وعندما لا يستطيع الحصول على الإشباع على أعلى مستوى، يبدع لنفسه مسرحية الدمار).
من الناحية البيولوجية لمحاولة فهم الجسد البشري، قامت البحوث التشريحية لدراسة وظائف الأعضاء سنة 1887 باكتشاف (خط كانتلي) -نسبة إلى الجراح الأسكتلندي جيمس كانتلي- وهو الخط الوهمي أو التخييلي الذي يقسم الكبد إلى أجزاء وظيفية غير متماثلة، ولكنه إجرائياً الخط الحقيقي للقيام بعمليات استئصال ناجحة للكبد. وقد بدأت محاولات اكتشاف الإنسان لأسرار الجسد عن طريق شكل من أشكال العرافة التي تعرف باسم (كهانة الأحشاء)، أي تشريح الأعضاء الداخلية لجسم الإنسان وعلى الأخص (الأعضاء النبيلة) التي تشكل الوعاء الجسماني الذي يحمي طاقة الخلق، فقامت بتشريح الكبد الذي يحمل تلك المهمة السحرية في استخلاص السموم من مجموع استقلابات الجسد، ليعرف هذا العضو لا كمخلص بيولوجي فحسب، حيث وجدت فيه الآلهة الإغريقية ما يحقق إرادتها في تخليد عقوبة بروميثيوس بإرسال نسر يقوم بنقر كبده وأكله، كما كشفت العلوم بعدئذ أن الكبد هو العضو الوحيد الذي يقوم بتجديد نفسه، وقد انتشرت بعض الإشاعات عن عادات الهنود الحمر في أكل كبد العدو نيئاً بعد قتله، بينما يشير الباحث منير العكش في كتابه (أمريكا والإبادات الثقافية) أن الإنجليز هم الذين قاموا بأكل جثث الهنود الذين استضافوهم ورحبوا بهم فى البداية. الكبد المخلص والشجاع (مقر الروح) والغضب والمشاعر القوية كما معروف عنه في الثقافات القديمة، بينما استعملت الشعوب التونغوسية سموم الكبد الفاسد لصنع سهام قاتلة.
إن ما دعي (خط كانتلي) ليس موجوداً بشكل عياني واضح، أي لا يوجد في الكبد ما يقسم فصوصه الأربعة، كما هو الحال في عضلة القلب. الكبد نسيج واحد لا يمكن التفريق بين أجزائه لو اعتمد علم التشريح على التكوين العضوي فقط، وأجد هنا مقاربة رمزية للغة الشعرية التي هي ليست مجرد نسق لغوي تراكمي يمكن تشريحه عضوياً، لو عدنا إلى الاتجاهات النقدية البنيوية أو الاجتماعية أو التاريخية، كما أنها ليست مجرد أعراض ثانوية لفرضيات الغرائز الفرويدية اللاواعية التي تقودها طاقة الليبدو. ويبدو أن العمل على تشريح اللغة الشعرية أقرب إلى عمل تشريح العاطفة التي تخوض صراعاتها في مواجهة العنف، فتتحول من شعور سيال بالدم إلى رموز رؤيوية في كتاب. في النص الشعري تتفتح زهرة النكروفيليا، تلك التي تشكلت في بيئة الإقصاء، والتفسخ، والاستلاب القهري لاندفاع عمل الآلة، في أشكال تحاول أن تستبقي الشفافية، ولغة لا يحدها الواقعي المتصلب، ولا الميتافيزيقي الأكثر استلاباً للحواس. تتفتح زهرة النكروفيليا في الخطوط الكانتلية التي تشرح اللذة وعمل الكارثة معاً، في عاطفة لا يمكن تحديدها أو رصدها، وزمنية لا تكف عن التدفق صوب العمق الذي يحقق وجوداً آخر لمادية الأشياء، (حيث يخلق العابر أثراً لامعاً في الظل) كما يقول بيير ريفيردي في نص شعري: (يبصق شرراً على الليل، جمرات، حباً، برقاً، أجنحةً متكسرةً، بغضاً، نجوماً وعملات ذهبية تتسارع. يبصق أنات ندم على الليل. في نسيم الصمت، يتصارع مع امرئ ويسقطه. يحشو بالصمت حلقه. وسواءً أكان في المدن الثائرة أم المدن الحمراء حيث ينام عميقاً لدى كل مفترق، حيث يخلف العابر أثراً لامعاً في الظل).
العاطفة قطعت رأس اللغة، محاولة الانتشاء بالفضاء الأورفيوسي التي تتشكل منه أحلامنا اليقظة على اللسان اللغوي، الذي لم يعد مجرد جاذب مغناطيسي لما يحقق صلة بما مضى، أو لما يؤكد ارتباطاً واقعياً بالمعيش، كما أن هذه العاطفة قد تكون تدميرية إلى الحد الذي ينتهك الروح، الجسد الحقيقي لكل ما نرى.
يقول شيموس هيني في كتابه سلطة اللسان: (العاطفة تعني إزعاجاً، انحرافاً في المرآة العاطفية، والتي هي خطر تضييق مدى استجابة الذهن إلى مفردات الإزعاج نفسه). هذا التأثير العاطفي للغة الشعر هو ما يجعل الشعر أقرب إلى الموسيقى التي تجد تأثيرها الأقوى في نفس شرعت أبعادها للفراغ اللامتناهي، مستمتعة قطرة قطرة بذوبان جليد صمتها الداخلي. الشعر الذي يتأسس كبنية لغوية هاربة تتخلص فيها اللغة من مأزقها الأيديولوجي، إلى أشكال قلقة تبتكر نقاطاً استيهامية، يراها البعض كمزاعم مستحقة للختام، بينما يطل منها البعض الآخر على مساحات للانطلاق يمكن استبدالها بزمنية شعورية منفصلة عن خطية الزمن المتناهي، وغير قابلة للرصد. اللقاء مع العاطفة هو الجرح الذي يتدفق من مسام الأرض، بهذه الكلمات التي تعيقها الميتافيزيقا من التشكل كجسور مرئية تؤكدها حجارتها الماثلة في غبش المكان، أو الانفتاح كنوافذ حية، للأزرق الممحو بعذوبة وثقة متجددة بالخلاء الذي يتسع إلى الشعر، زهرة العاطفة، أو زهرة النكروفيليا بجذورها المسمومة التي تعبر العالم.

ذو صلة