مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

روح

قررتُ أن أعود بعد سنوات لشقة أمي المهجورة، صدمني انقطاع الكهرباء، بالكاد قضيت ليلتي.
في الصباح ذهبت لشركة الكهرباء لأعلم سبب الانقطاع، فلم يكن هناك سبب واضح.. حتى أن فني الصيانة -كذلك- عجز عن التفسير، تقدمت بشكوى إلى مديرة الشركة أطلب فيها حلاً عاجلاً، تعجبت من إصراري على الرغم من أنني لا أفكر بالسكن بها، لما فيها من تصدعات خطرة متفرقة في أرجائها.. تحتاج لوقت وجهد كبيرين وقدر من المال أعجز عن ادخاره، خرجت من مكتب المديرة على وعدٍ منها بأن النور سيسطع بعد ساعة في منزل أمي.. وما إن خرجت حتى رأيتها من بعيد تتقدم إليّ.
نعم إنها هي.. أمي.. ليست ملامح تشبهها، أو مشية متأنية كمشيتها، بل هي بكبريائها وإصرارها على عدم استعمال عصا تتوكأ عليها وإن كانت ستُيسّر لها الأمر، تنظر حولها خشية أن تتعثر، تستند على الحائط أو تلك السيارة لتصعد على رصيفٍ مرتفع، لم أصدق عيني التي لم تطرف لحظة، وكأنها أرادت ألا تغفل عن تلك البشرة، الملامح، النظرات، الخطوات المتأنية، العباءة الكحلية المطرزة التي أهديتها لها في إحدى المناسبات.
(ماما) كانت صيحتي التي لم أحررها عند وفاتها، وهأنذا أناديها بها الآن لحظة عودتها إليّ..
صيحة تحمل اللهفة، الحنين، الأوجاع التي أعانيها بفقدها، صيحة تحمل الرجاء أن تبقى.
لا أدري كيف تفجر ينبوع عبرات ظننتها جفت منذ زمن..
الآن سأقترب احتضنها، أتشممها، أُقبّل ملامحها ويدها كثيراً، وستناديني باسمي المحبب إليها، سأسمع صوتها الدافئ العذب، أرى نظرة الدهشة لرؤيتي، ثم فرحة تلمع بعينيها، وتسألني بعتاب حانٍ: (فينك يا بت، كده متسأليش؟).
فأعتـــــذر وأعدهــــــا ألا أفارقهـــــــا أبـــــداً، وتسامحني كعادتها.
ها هي تقترب، لكنها لا تنظر إليّ، أهرول ناحيتها لكن قدمي ثقيلة، وكأنني فقدت كل الحواس إلا عيني التي امتدت لها، فندائي لها لم يتعدَّ حلقي، هرولتي لم تتجاوز مكاني، أسرعي يا أمي.. أشتاق لحضنك.. هيا انظري لابنتك، أمي أمي..
اختلف الوجه.. بدأ يتلاشى بالاقتراب، تبدلت الملامح كلياً فلا شبه بين تلك المرأة القادمة.. وأمي.
- لا تذهبي..كنتِ أنتِ..
وقفتُ في زاوية جانبية، كطفلة تيتمت للتو، بكيت بعد أن فقدتُ السيطرة على جوارحي التي تنهنه معي، شعرتُ بيد تربت على رأسي.. رفعتُ عيني الدامعة إليها، أمسكَتْ يدي سائرة إلى شقتنا القديمة وتيار حنو يدفئ قلبي.

ذو صلة