مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مناجاة

كنتِ قد تحدثتِ طويلاً، عن بدايات العلاقة ونهايات الرؤي، وعن شيخ كبيرٍ وطفلة تحتضر، وأنا مصغٍ إليكِ، لا أقاطعكِ ولا أعقب عليكِ، فتشردين نحو دوحة وعصفور -بدا في هلع- يحوم، ربما كان يبحث عن وليد تائه أو أنيس مفقود.
والآن تصمتين، وتبرق عيناكِ بدمعٍ حائر وعتابٍ غريب، وحين أهم بالهمس تهرب الكلمات مني، وتتلاشى الحروف، تمسكين بأناملي، وتضمني نظراتكِ بشفقة مرهفة، فتفر أوجاع قلبي، وأحزان صدري، ويغادر فؤادي شعورٌ بالخوف والرهبة.
- صدقيني، مازال بإمكاننا ترميم الجدار
تولين وجهكِ صوب الشجرة العجفاء، وترمقين العصفور الماكث فوق غصنه اليابس، يسقسق في خفوت، فألمح بحدقتيكِ دمعاً استطاب البقاء.
- انفصام علاقتنا شيء مستحيل.
قسمات وجهكِ تستلهم الماضي البعيد، وتعانق الوقت العتيد، فيتراءى -بالآفاق- خيلٌ عنيد.
ويعاود عصفورنا التحليق فوق ثبج المياه، وأشرعة المراكب، وأطواق النجاة، يهبط إلى الأرض، ينقر العُشب والعصف، وبقايا قمح، ويطير إلى عُشه متعباً.
في طفولتكِ كنتِ تحبين العصافير الطليقة، تهدهدينها بين كفيكِ الصغيرين، تصنعين لها أعشاشاً من القش، وتضعينها أعلى الشجيرات، وحين تأتيكِ صادحة تهللين، وترددين معها الصدح الجميل.
- لا يمكن لعذوبة النهر أن تستحيل مُرَّاً، ولا لأُجاج اليم أن يصير حلواً.
تهرولين بين المعابد والمسلَّات، تتفقدين المومياوات الراقدة في توابيتها، وتقرئين ما تيسر من كتاب الموتى، ومخطوطات البردي، وتفتحين ذراعيكِ لبدايات مطر يغسل الطرقات والجدران والأبنية.
- صدقيني، فبين وميض وجودنا ولحظات فراقنا رؤى غير مرئية نعجز عن الإمساك بها، أو الإفصاح عنها.
وترتدين جلباباً مرصعاً بحروف فصيحة، وعلى هامتكِ منديل ممهور بخرائط قديمة، وتنطلق -من بين شفتيكِ- ضحكة صافية تليدة.
وتنادينني بأعلى صوت، فألبي دعوتكِ، واقترب منكِ، لنعانق النور، ونصافح الخمائل، ونداعب الطيور، ونرفع قواعد بيتنا القديم.
- لا أوافقكِ مُطْلقاً، فضحكاتنا لم تمت بعد، هي -فقط- مؤجلة لميعاد ومعاد.
وتتابعين المشاهد بنظرات تشي بفرحة ممزوجة بآهات مكظومة، فأخفف عنكِ وطأة الأشياء، وأدعوكِ إلى احتساء الشهد والحليب وطعام العشاء.
ويباغتنا ليلٌ، واكفهرار جوٍ يلف المكان، فتجزعين وترتجفين، وتسألينني عن غدٍ أسير، فأضمكِ إليَّ، وأضع رأسكِ على صدري، فتسمعين نشيج قلبي.
- مازال باستطاعتنا قهر الشقاء.
تتراءين لي بملامح إيزيس، يتعلق بيدكِ حورس الصغير، وأنتِ تشجبين مقتل أوزير، وتطالبين بتنفيذ القصاص.
- القاضي لا يجد الشهود.
تفُكِّين رموز الطلاسم، وتحرقين تعاويذ السَّحرة، وتجوبين الأرض الفسيحة، تنقبين عن أشلاء عمرنا الضائع، وأحلامنا المفقودة، وعلاقتنا الموءودة، وتُسَائلين المارة عن شاهد وشهيد ومشهود.
- قلتِ لي يوماً: إن رأسك غير رأسي، وقلبي غير قلبكَ، وتشظي المشاعر أمرٌ محتوم.
أشجب كلامكِ، وأُدين رأيكِ، وأبصر بالسماء شارة وبشارة تأبيان الرحيل، وتنتفضين -من مكانكِ- عازمة على الرجوع، فأمسك بساعدكِ مناشداً إياكِ حسم الأمور.
وأعود -ثانيةً- محاولاً إقناعكِ رغبة في العدول، ويطول حديثي ويطول، وأنتِ مازلتِ واقفة -بملل- تسمعين، وأطالبكِ بموقف يحفظ ما تبقى من واقع مرير، فلا تنطقين، وعلى حافة العُش مكث العصفور يسقسق بوهن عليل، ويضيق صدري وأعاود الإلحاح عليكِ، فلا تنبسين، وحين هممتِ بالانصراف علا أعلانا صياحٌ يستغيث، وفي المسافة الفاصلة بيني وبينكِ كان قد هوى العصفور.

ذو صلة