مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

كارتوغرافيا المستقبل والصناعات الإبداعية المستدامة

إن التفكير المطرد في المستقبل ورهاناته التعبيرية وإشكاليات المصائر الرقمية، بات اليوم أحد أهم الإستراتيجيات الخاضعة للبحث والمعالجات في شتى المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والصناعات الإبداعية ضمن طرح سياسات علوم المستقبل ومراوحته بين الواقع والمأمول. فتضمن الطفرة الرقمية وأشكال الذكاء الاصطناعي المتجدد تغييراً واضحاً في طرق المعالجات الإبداعية في كل المجالات الحيوية والفكرية والاقتصادية وارتباطها مباشرة بسرعة الدفق وبتطور البرمجيات وبتعدد الاختصاصات والتقنيات لاستكشاف بدائل مستقبلية ممكنة تجمع بين الابتكار والاستدامة. وفي هذا المجال عملت أغلب الدول الغربية منها والعربية على رسم مخططاتها ونظرتها المستقبلية الخاصة بطرق العيش والتعليم والتفكير والاكتفاء البيئي والحيوي في حد ذاتها وضمان اكتفائها الذاتي من الطاقة والغذاء والثروة البشرية.
إن طرح المستقبل واستشرافه وتحديد آليات صناعته بات أمراً ضرورياً ومطلباً مهماً لضمان النجاح وأسسه الفكرية والاقتصادية والإبداعية. فالمستقبل بمعناه المطلق، هو كل ما في الزمن القادم والآتي. ويفكر الإنسان في مستقبله غير المدرك بتطويع أسس وإستراتيجيات ومخططات وأهداف لنيل القرارات الملائمة مع هذا المستقبل. فالمستقبل باعتباره الزمن الآتي بعد الزمن الحاضر، يختلف تبويبه والتفكير في رسم خارطته باختلاف الأطر المكانية. وإذا ما ارتبط البحث في المستقبل بالمسائل الفلسفية أو الفيزيائية أو العقائدية فإن النتائج مختلفة لكنها تضعنا في محور مؤكد، ألا وهو ضرورة التفكير في هذا الآتي المختلف حسب قوانين الطبيعة الفيزيائية عن الحاضر المعيش. يتمثل بالتالي علم المستقبل في استبيان المعطيات الاقتصادية وأشكال العلوم المتطورة واعتماد التقنيات المستحدثة والمتطورة لرسم التوقعات ضمن كارتوغرافيا العالم وما يمكن أن يكون عليه في المستقبل وتحديد الفترة الزمنية أي بعد عقد أو نصف عقد أو ما بينهما. إن هذا المأمول المستقبلي يخضع لعدة مخططات استبيانية واستباقية لضمان تنبؤات تهم الواقع الذي سيكون عليه الإطار الزماني والمكاني فيصبح علم المستقبل بذلك مطلباً حضارياً من شأنه أن يزيد من النماء والتطور في أغلب المجالات. بالتالي (ينطوي كل مستقبل على إمكانية من الإمكانيات ويمكن نقل المستقبل بفعل الإدراك المسبق من نقطة لأخرى أي حدث أو ظاهرة أو قضية يمكن اعتبارها دائرة مركزية ويمكن افتراض سلسلة نتائج مباشرة مرتبطة عليها ثم نبدأ بدفع النقطة المنبثقة من كل دائرة من الدوائر. فالطرق الاستكشافية والمعيارية لا تقف في مواجهة بعضها البعض، فما هو تنبؤ واستشراف حدسي معياري لمستقبل معين مرغوب فيه ينطوي في حد ذاته على تنبؤ حدسي معياري يفترض أن المستقبل الناتج سوف يكون مرغوب فيه إذا ما تم تحقيقه. ومن هنا يمكن الاستفادة من امتزاج التنبؤ الاستكشافي والتنبؤ المعياري على نحو يسهم في فهم سمات وخصائص الغد المأمول).
يساهم بدوره المبدع في رسم خارطة المستقبل القريب عبر تعدد المبادرات والبرامج والمقاربات البحثية التي ترمي إلى تعزيز إستراتيجيات الاستدامة. وقد يساهم مجال قراءة المستقبل والتأكيد على نشر ثقافة الرؤى الاستطلاعية والمأمول المستقبلي في أغلب الدول العربية، في إنماء فرص البحث والسؤال عن خصوصية هذا المستقبل المستدام في رحاب الفنون والتصميم من خلال تنوعات التجارب الإبداعية المتعددة. وبما أن شعار المستقبل واستشرافه يرتبطان بالكثير من الخيال الإبداعي والمساهم في رسم ملامح التعايش المستدام عبر تحديد تواريخ مختلفة كسنة 2030 أو 2040 أو2050 وغيرها، توجهت سياسات أغلب البلدان العربية إلى وضع الغايات المنشودة والاشتغال على تحقيقها عبر تحقيق التغيير المطابق للمواصفات العالمية المعاصرة ومساءلة مفهوم الاستدامة في تغيير خارطة العالم. كما يضمن التفكير في المستقبل ورهانات الغد، القطع مع الراهن ومتطلباته الممكنة من خلال طفرة العوالم الرقمية المنشودة لبناء المدن الذكية، ونذكر في هذا السياق مشروع (ذا لاين the line) بالمملكة العربية السعودية، وهو ما دفع للبحث في تصميم المدينة المستدامة حسب مواصفات الخيالات العلمية وإثبات البيئة المحلية والعربية لتضمن المدينة المستقبلية تغييراً جذرياً لنسيج المجتمعات المدنية. وإذا كانت الرؤية حمالة بصور ذهنية للحالات المستقبلية المرغوبة حسب التطلعات المستقبلية فإن سعي السياسات العربية خصوصاً في دول الخليج كانت سباقة لدعم أسس التبادل الفني والإبداعي ضمن تجارب ريادية تقرأ احتياجات الفرد في المستقبل ونذكر في هذا الطرح أسس التشكيل التصميمي لمتحف المستقبل بدبي.
إن التساؤل في المستقبل والبحث عن آليات التعبير والتغيير وارتباطه بالرقميات المستجدة في الصناعات الإبداعية المعاصرة في النموذج العربي يدفعنا لقراءة هذه الإستراتيجيات المتعددة والسياسات القاضية بدعم الاستشراف ومتطلباته ضمن رؤى مستقبلية تقضي لزاماً افتراض قوانين لهذا الغد والمصائر المستقبلية التي تجمع بين الاستدامة والإبداعي دون استنزاف طاقات الكون وتحويل الطفرة الرقمية إلى فضاءات بحثية لبناء سياسات وعصر ما بعد الإنترنت لخدمة البشرية المعاصرة.

ذو صلة