مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

(أورجانون) زمانه في تاريخ العلوم

علم المستقبليات، هو أساس العلوم الإنسانية والتطبيقية والذي يحدد المستقبل وفق تصورات الراهن، بواسطة أدواته وتقنياته المعاصرة والمستقبلية، ويوضح مسارات المستقبل للأجيال القادمة وفق معطيات المعرفة المستدامة. ولقد اتفق معظم الباحثين والمختصين على تعريفه بعلم استشراف المستقبل، والدراسات المستقبلية هو علم يختص بالمحتمل والممكن والمفضل من المستقبل، ويهدف إلى تحليل المعطيات بالاستناد إلى الواقع واتجاهات الأحداث. وتعود بدايات علم المستقبليات إلى دراسة العالم الفرنسي دو كوندورسيه في القرن الثامن عشر الميلادي. وتطورت هذه الدراسات في مطلع السبعينات من القرن الماضي وأخذت مكانة مميزة في التأثير على رسم السياسات العامة والمستقبلية للدول. وتكمن أهمية علم المستقبليات في قدرته على تصور المستقبل وتحديد الاتجاهات والمسارات المستقبلية، من خلال تحليل البيئة الداخلية والخارجية، لتحديد الفرص والتحديات التي يمكن أن تواجه الدول في المستقبل، كما أن علم المستقبليات يساعد في تحديد الخيارات المتاحة وتحديد الأولويات والتركيز على الأهداف الرئيسة.
    ويشير ذلك إلى أن مجموع مراكز الفكر والمؤسسات البحثية العربية تشكِّل جزءاً ضئيلاً من مجموع مراكز الفكر العالمية، وهي 344 مركزاً في المنطقة العربية والمتمركزة في شمال أفريقيا، والشرق الأوسط والخليج العربي، في حين تملك الولايات المتحدة الأمريكية وحدها حوالي 2203 مركزاً بحثيّاً حسب آخر إحصائيات التقرير. وهو ما يؤكد على الأهمية البالغة لأدوار هذه المراكز في رسم وصنع وتوجيه السياسات العامة للدول الكبرى، خاصة في ظل المعاناة العالمية من الأزمات المتغيرة والمعقدة.
• دور الاستشراف واستقراء المستقبل في حقل الدراسات الإستراتيجية في ظل المتغيرات الإستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية والأمنية
يمكن أن نقول بصفة عامة إن غاية الدراسات المستقبلية هي توفير إطار زمني طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم، ومن ثَمَّ العمل وفق نظرية ورؤية طويلة المدى، وهذا أمر تُمليه سرعة التغير وتزايد التعقيد. ومن جهة أخرى، فإن ما تتيحه الدراسات المستقبلية من إضفاء طابع مستقبلي طويل المدى على تفكير الباحث أو صانع القرار، إنما هو إحدى علامات النضج العقلي والرشاد في اتخاذ القرارات. ومن هنا تأتي أهمية الاستشراف ودور الدراسات المستقبلية في استطلاع النتائج والتداعيات على المسارات المستقبلية، وإسهامها الإيجابي في صنع المستقبل.
وهناك تداخل بين الدراسات الإستراتيجية والدراسات المستقبلية باعتبارهما حقلين متمايزين. فرغم اختلاف مجال عمل كل منهما، أصبحت الدراسات المستقبلية مؤخراً معنية أكثر بالموضوعات ذات الطابع الإستراتيجي. فالعمل البحثي يجب أن يكون استباقيّاً، وأي عمل بحثي لا يراعي الاستباقية ضعيف القيمة. لذا، فمراكز الأبحاث يجب أن تُنشئ بداخلها وحدات إنذار مبكر تضع مؤشرات لاستشراف المستقبل أمنيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وغير ذلك. وتؤدي مراكز الفكر والبحوث من خلال دراساتها دوراً مهمّاً في مجال (المستقبليات) أو المجال (الاستشرافي)، خاصةً مع تطور علم الدراسات المستقبلية في العالم الغربي، بل وأصبحت نتائجها من المتطلبات الأساسية للتخطيط الإستراتيجي في الدول المتقدمة. وإن كان هذا النوع من الدراسات في العالم العربي لا يزال يقوم في الكثير منه وفق تنبؤات أو تقديرات أو انطباعات تتولد لدى الباحثين أكثر منه الاعتماد على أسس علم المستقبليات.
إن الوعي بالمستقبل واستشرافه يعدّ من المرتكزات المهمة، بل وآلية للنجاح، لذا يجب أن يكون للمجتمعات العربية رؤية واضحة للمستقبل، لتجنب التحول إلى مجرد ردّ فعل على تصرفات الآخرين. وفي ظلّ الظروف الإقليمية والعالمية التي تتسم بالتغير والاضطراب الشديدين، تبرز أهمية الاستشراف الإستراتيجي، باعتباره عنصراً مكملاً لعملية التخطيط الإستراتيجي، ذلك أن الاعتماد على طرق التخطيط التقليدية دون أن تسبقها عملية استشراف هو أمر غير مأمون النتائج. ويترتب على ذلك ضرورة توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الاختيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ضوئها، بدلاً من الاكتفاء بالمجادلات الأيديولوجية والمنازعات السياسية التي تختلط فيها الأسباب بالنتائج، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعي مما هو ذاتي.
لذا فإن استشراف المستقبل يسهم في ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات من زاويتين: الأولى، هي زاوية توفير قاعدة معلومات مستقبلية لصانع القرار حول البدائل الممكنة وتداعيات ونتائج كلٍّ منها عند نقطة زمنية محددة في المستقبل. أما الزاوية الثانية، فهي ترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات من نقاش حول الخطط والسياسات سواءً على مستوى النخب أو الجماهير بقصد بلورة القضايا وبيان الخيارات المتاحة.
في هذا السياق، فيقترح تنفيذ عدد من الإجراءات والآليات التي تساعد على تخطي الإشكاليات والتحديات والتغلّب عليها، من خلال ما يلي:
• بالنسبة إلى مرحلة ما بعد التنبؤ أو مرحلة استجابة صانع القرار لهذا النوع من الدراسات، فلا بدَّ أن تكون هناك استجابة فعلية لها من صانع القرار، وألا تكون هذه المراكز مجرد ديكور سياسي.
• لمَّا كان استشراف الأحداث عملية صعبة وأكثر تعقيداً من أن يتمّ التنبؤ حول عدة قضايا بصورة شاملة متكاملة. فلا بدَّ أن نفرِّق في العمل البحثي والأكاديمي ما بين الدراسات الوسطية والدراسات المستقبلية.
• أن تتبنى مؤسسة بحثية عربية إقامة اجتماعات دورية لمراكز الفكر والبحوث المعنية بالدراسات المستقبلية في العالم العربي، لتقييم أوضاعها وتوثيق الشراكة فيما بينها.
• غرس مفهوم الاستشراف في صلب عملية التنمية، ولا سيّما تطوير مدركات القائمين على عملية التخطيط وصياغة الإستراتيجيات وصنّاع القرار واضعي السياسات.
• تطوير المؤسسات والمنظمات في المنطقة العربية، بما في ذلك العاملة في البحوث المستقبلية والتفكير المستقبلي، سواء على المستوى الفردي، أو مستوى المنظمة.
• رفع الوعي بأهمية الدراسات المستقبلية في تصور المستقبل والتحضير له.
• تطوير ثقافة التفكير المستقبلي وتوجيه الناس للتفكير في المستقبلات البديلة.
• أهمية بناء القدرات في مجال الدراسات المستقبلية.
• تطوير المناهج العلمية المتعلقة بالدراسات المستقبلية في الجامعات.

ذو صلة