مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الدراسات المستقبليـــة العـربيــة.. الواقـــع.. التحديـــات.. المستقبـــل

اتسع حقل الدراسات المستقبلية ليُعنى بطيف واسع ومعقد من القضايا، ولم يعد التعاطي معها مقصوراً على الإطار المفاهيمي التقليدي فقط. ومن ثَمَّ تطورت عملية بناء الرؤية الإستراتيجية للدول بهدف تحديد قضاياها وأنسب السبل لتعزيز قدرتها وبناء قوتها ونفوذها الدوليين وحماية مصالحها العالمية بحسب ما تفرضه تلك القضايا من تحديات ومعطيات، وبروز مفهوم القوة الشاملة للدولة وتعدد مدارسه ومحاولات بناء أطر متعددة لفهم طبيعته وكيفية بنائها وتعزيزها. وكذلك مفهوم التكامل الإستراتيجي، وتصاعدت أهمية الدراسات المستقبلية وتعقد فضاءاتها وأنماط المساهمين فيها. ذلك المشهد المعقد والمتغير بشكل متواصل في ظلّ الثورات المعرفية المتلاحقة، وتداعيات الثورة الصناعية الرابعة، الذي فرَض نفسه على فضاء الدراسات المستقبلية والإستراتيجية وفرَض على المعنيين بها إعادة تعريف نطاقاتها وأدواتها والعلاقات بين مجالاتها المختلفة، وبينها وبين مؤسسات صنع القرار من جهة والرأي العام من جهة أخرى.
ولعلّ التحدي الأهمّ هو بناء منظور إستراتيجي شامل في مواجهة كافة التحديات التي تعوق هذا الهدف الضروري للحفاظ على وجود الإنسانية وبقائها. فأصبحت قضية استشراف بما سيصبح عليه مصير الإنسان والمجتمعات محور اهتمام الكثيرين، كونها ذات صلة بالزمن بأبعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، ومن هنا جاءت أهمية الدراسات المستقبلية التي تُساعد على تحديد ملامح الغد، لذا نجد أن معظم دول العالم قد اعتمدت عليها في وضع سياساتها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتجنب التغيرات السلبية المتوقع حدوثها لتؤثر على فعالية هذه الخطط والسياسات.
ولحقل الدراسات المستقبلية ثقل كبير في العلوم السياسية بشكل خاصّ. حيث تنبع أهميته من حتميته سواء للدول المتقدمة والنامية على حد سواء، على الرغم من أن 97 % من إجمالي الإنفاق على الدراسات المستقبلية يكون من جانب الدول المتقدمة بينما 3 % من جانب الدول النامية، ويأتي هذا الاهتمام بها في العالم المتقدم لكونها تعمل على رسم خريطة كلية للمستقبل عن طريق استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والمحتمل حدوثها مستقبلاً، إلى جانب مساعدتها في توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الخيارات المناسبة عند المفاضلة بين عدد من البدائل. وفي السياق ذاته، تساعد على التخفيف من حدة الأزمات عن طريق التنبؤ بها والاستعداد لمواجهتها قبل أن تتحول إلى كوارث، وتلعب دوراً هاماً في مجال التخطيط الإستراتيجي عن طريق توفير الرؤية المستقبلية، لخدمة الأغراض العسكرية وإدارة الصراعات المسلحة أو حتى للأغراض المدنية عن طريق إدارة المؤسسات والشركات الكبرى متعددة الجنسية. كما أنها تُحسن من قدرة صانع القرار على التأثير في المستقبل، وتعمل على زيادة المشاركة الديمقراطية في صنع المستقبل، باعتبار أنها تتم في إطار فريق عمل يجمع متخصصين في مجالات عديدة.
واقع الدراسات المستقبلية في المنطقة العربية
لا يخفى عنا أيضاً بأن العالم العربي توجه إلى هذا المجال متأخراً بعد إدراكه بأن عملية الاستشراف أمر هام، يمكن من خلاله تحديد ملامح الغد، وتجنب التغييرات أو المشاكل السلبية المتوقعة وفق خطط وسياسات معينة، ورغم هذا التأخر - إلا أن الإسهامات في هذا المجال مازالت محدودة لا سيما إذا تحدثنا عن الجانب الإبداعي وكيفية استحداث تقنيات وأساليب استشرافية جديدة.
ومن المؤكد أن الوقوف على واقع وإشكاليات الدراسات المستقبلية في المنطقة العربية مسألة مهمة جدّاً لما تحظى به المنطقة من أهمية إستراتيجية كبيرة تضعها محل استهداف حاليّاً، وبالتالي عدد من القضايا في الوطن العربي تحتاج إلى دراستها استشرافياً. لكن هناك بعض الإشكاليات التي تواجهها مراكز الفكر والبحوث المعنية بالدراسات المستقبلية والدراسات الإستراتيجية، أو بعض الإشكاليات المتعلقة بمجال الدراسات المستقبلية ذاته، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:
-1 القصور الملحوظ في العالم العربي بالنسبة إلى المراكز البحثية، حيث يتراجع تصنيف بعض المؤسسات البحثية العربية، رغم خضوع بعض تلك التصنيفات لمعايير غير عادلة.
-2 عدم استناد عدد من حكومات دول المنطقة على مخرجات المراكز البحثية المعنية بالدراسات المستقبلية.
-3 موقع مراكز الفكر العربية على الصعيد العالمي، فقد أشار تقرير جامعة بنسلفانيا (مراكز الفكر والمجتمع المدني) الصادر في يناير 2021م، والمحدثة بياناته في 17 مارس 2021م بشأن مراكز البحوث على مستوى العالم، فنجد على سبيل المثال في منطقة الشرق الأوسط امتلاك إيران مثلاً 87 مركزاً بحثيّاً، وإسرائيل 78 مركزاً، في حين جاء توزيع عدد المراكز البحثية في الدول العربية كالتالي:

    ويشير ذلك إلى أن مجموع مراكز الفكر والمؤسسات البحثية العربية تشكِّل جزءاً ضئيلاً من مجموع مراكز الفكر العالمية، وهي 344 مركزاً في المنطقة العربية والمتمركزة في شمال أفريقيا، والشرق الأوسط والخليج العربي، في حين تملك الولايات المتحدة الأمريكية وحدها حوالي 2203 مركزاً بحثيّاً حسب آخر إحصائيات التقرير. وهو ما يؤكد على الأهمية البالغة لأدوار هذه المراكز في رسم وصنع وتوجيه السياسات العامة للدول الكبرى، خاصة في ظل المعاناة العالمية من الأزمات المتغيرة والمعقدة.
• دور الاستشراف واستقراء المستقبل في حقل الدراسات الإستراتيجية في ظل المتغيرات الإستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية والأمنية
يمكن أن نقول بصفة عامة إن غاية الدراسات المستقبلية هي توفير إطار زمني طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم، ومن ثَمَّ العمل وفق نظرية ورؤية طويلة المدى، وهذا أمر تُمليه سرعة التغير وتزايد التعقيد. ومن جهة أخرى، فإن ما تتيحه الدراسات المستقبلية من إضفاء طابع مستقبلي طويل المدى على تفكير الباحث أو صانع القرار، إنما هو إحدى علامات النضج العقلي والرشاد في اتخاذ القرارات. ومن هنا تأتي أهمية الاستشراف ودور الدراسات المستقبلية في استطلاع النتائج والتداعيات على المسارات المستقبلية، وإسهامها الإيجابي في صنع المستقبل.
وهناك تداخل بين الدراسات الإستراتيجية والدراسات المستقبلية باعتبارهما حقلين متمايزين. فرغم اختلاف مجال عمل كل منهما، أصبحت الدراسات المستقبلية مؤخراً معنية أكثر بالموضوعات ذات الطابع الإستراتيجي. فالعمل البحثي يجب أن يكون استباقيّاً، وأي عمل بحثي لا يراعي الاستباقية ضعيف القيمة. لذا، فمراكز الأبحاث يجب أن تُنشئ بداخلها وحدات إنذار مبكر تضع مؤشرات لاستشراف المستقبل أمنيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وغير ذلك. وتؤدي مراكز الفكر والبحوث من خلال دراساتها دوراً مهمّاً في مجال (المستقبليات) أو المجال (الاستشرافي)، خاصةً مع تطور علم الدراسات المستقبلية في العالم الغربي، بل وأصبحت نتائجها من المتطلبات الأساسية للتخطيط الإستراتيجي في الدول المتقدمة. وإن كان هذا النوع من الدراسات في العالم العربي لا يزال يقوم في الكثير منه وفق تنبؤات أو تقديرات أو انطباعات تتولد لدى الباحثين أكثر منه الاعتماد على أسس علم المستقبليات.
إن الوعي بالمستقبل واستشرافه يعدّ من المرتكزات المهمة، بل وآلية للنجاح، لذا يجب أن يكون للمجتمعات العربية رؤية واضحة للمستقبل، لتجنب التحول إلى مجرد ردّ فعل على تصرفات الآخرين. وفي ظلّ الظروف الإقليمية والعالمية التي تتسم بالتغير والاضطراب الشديدين، تبرز أهمية الاستشراف الإستراتيجي، باعتباره عنصراً مكملاً لعملية التخطيط الإستراتيجي، ذلك أن الاعتماد على طرق التخطيط التقليدية دون أن تسبقها عملية استشراف هو أمر غير مأمون النتائج. ويترتب على ذلك ضرورة توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الاختيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ضوئها، بدلاً من الاكتفاء بالمجادلات الأيديولوجية والمنازعات السياسية التي تختلط فيها الأسباب بالنتائج، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعي مما هو ذاتي.
لذا فإن استشراف المستقبل يسهم في ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات من زاويتين: الأولى، هي زاوية توفير قاعدة معلومات مستقبلية لصانع القرار حول البدائل الممكنة وتداعيات ونتائج كلٍّ منها عند نقطة زمنية محددة في المستقبل. أما الزاوية الثانية، فهي ترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات من نقاش حول الخطط والسياسات سواءً على مستوى النخب أو الجماهير بقصد بلورة القضايا وبيان الخيارات المتاحة.
في هذا السياق، فيقترح تنفيذ عدد من الإجراءات والآليات التي تساعد على تخطي الإشكاليات والتحديات والتغلّب عليها، من خلال ما يلي:
• بالنسبة إلى مرحلة ما بعد التنبؤ أو مرحلة استجابة صانع القرار لهذا النوع من الدراسات، فلا بدَّ أن تكون هناك استجابة فعلية لها من صانع القرار، وألا تكون هذه المراكز مجرد ديكور سياسي.
• لمَّا كان استشراف الأحداث عملية صعبة وأكثر تعقيداً من أن يتمّ التنبؤ حول عدة قضايا بصورة شاملة متكاملة. فلا بدَّ أن نفرِّق في العمل البحثي والأكاديمي ما بين الدراسات الوسطية والدراسات المستقبلية.
• أن تتبنى مؤسسة بحثية عربية إقامة اجتماعات دورية لمراكز الفكر والبحوث المعنية بالدراسات المستقبلية في العالم العربي، لتقييم أوضاعها وتوثيق الشراكة فيما بينها.
• غرس مفهوم الاستشراف في صلب عملية التنمية، ولا سيّما تطوير مدركات القائمين على عملية التخطيط وصياغة الإستراتيجيات وصنّاع القرار واضعي السياسات.
• تطوير المؤسسات والمنظمات في المنطقة العربية، بما في ذلك العاملة في البحوث المستقبلية والتفكير المستقبلي، سواء على المستوى الفردي، أو مستوى المنظمة.
• رفع الوعي بأهمية الدراسات المستقبلية في تصور المستقبل والتحضير له.
• تطوير ثقافة التفكير المستقبلي وتوجيه الناس للتفكير في المستقبلات البديلة.
• أهمية بناء القدرات في مجال الدراسات المستقبلية.
• تطوير المناهج العلمية المتعلقة بالدراسات المستقبلية في الجامعات.

ذو صلة