مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مراجعة الفرص والتحديات

مما لا شك فيه أن البيانات الضخمة المنظمة والدقيقة أصبحت تلعب دوراً مهماً في مسار عمليات استشراف المستقبل، ورسم الخطط الإستراتيجية والسياسات لصانعي القرار على كافة المستويات. وربما كانت تلك الحقيقة المهمة واحدة من أهم العوامل الكامنة وراء ارتفاع حجم الطلب الوظيفي العالمي، من جانب كبرى الشركات الخاصة والمؤسسات الحكومية على حد سواء، على العلماء والباحثين القادرين على التعامل بدقة مع الكم الهائل والمتزايد من البيانات الضخمة (Big Data) وتوظيفها في التحليلات التنبؤية (Predictive Analytics) المختلفة، وذلك بهدف العمل على استخلاص المعلومات وتطوير الرؤى التي تخدم أهدافها ومصالحها المستقبلية في مجالات متنوعة، مثل التجارة الإلكترونية، والاستثمارات الاقتصادية، والتغيرات البيئية والمناخية، والسياسات العامة للدولة، والاستخبارات العسكرية والأمنية، وتسويات النزاعات، وعمليات بناء السلام، وغيرها.
ويبدو أن حصيلة تفاعلاتنا اليومية مع المنتجات الرقمية، بما في ذلك الهواتف الخلوية وبطاقات الائتمان ومنصات التواصل الاجتماعي، سوف تسهم في إنتاج الجزء الأكبر من بيانات العالم خلال السنوات القليلة القادمة. ففي يناير 2021، كان هناك 5.22 مليار مستخدم للهاتف الخلوي في العالم، وقد نما هذا العدد بمقدار 93 مليوناً خلال الاثني عشر شهراً التالية لهذا التاريخ، بل توقعت بعض التقارير الصادرة مؤخراً عن مؤسسة (GSMA Intelligence) أن يستمر هذا النمو بمعدل قد يصل إلى %1.8 سنوياً. وفي السياق ذاته، تشير التقديرات إلى أن سوق البيانات الرقمية سينمو بنسبة %61 ليصل إلى 175 زيتابايت، أي ما يعادل 175 ترليون جيغابايت بحلول عام 2025.
توظيف البيانات الضخمة في التحليلات التنبؤية
كان جوزيف هيلرستاين، أستاذ علوم الحوسبة في جامعة بيركلي، من أوائل الذين أشاروا إلى دنو حدوث (ثورة صناعية في البيانات) بحسب تعبيره. وفي العام 2012، أصبح مفهوم البيانات الضخمة أكثر شيوعاً عندما جعل البيت الأبيض ومنتدى دافوس الاقتصادي العالمي هذا المفهوم قضية مستقبلية مركزية تحتاج إلى مزيد من المتابعة والاهتمام. وبشكلٍ أكثر دقة من ناحية التعريف بخصائص البيانات الضخمة، فقد ذهب الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) إلى تعريف هذا المصطلح بأنه عبارة عن: (مجموعات البيانات التي تتميز بأنها فائقة حجماً وسرعة و/أو تنوعاً، بالقياس إلى أنواع مجموعات البيانات المعهودة الاستخدام). وعليه، أصبح من الصعب، أو بمعنى أدق من المستحيل، التعامل مع البيانات الضخمة باستخدام قواعد البيانات التقليدية المعروفة بالعلائقية (Relational Data Bases)، حيث لا يمكن معالجتها إلا من خلال أنظمة وتقنيات متقدمة تعمل بشكل متوازٍ على المئات، أو حتى آلاف من الخوادم. ويؤكد أغلب الخبراء أن مفهوم البيانات الضخمة بهذا الشكل يقوم على ثلاث خصائص جوهرية، هي: الحجم (volume)، والسرعة (velocity)، والتنوع (variety)، أو ما يشار إليه في اللغة الإنجليزية بمبدأ الـ(3Vs)، علماً بأن بعض الخبراء والمؤسسات الأخرى تضيف خاصيتي الموثوقية (Veracity)، والقيمة (Value) إلى قائمة الخصائص الثلاث الأخرى التي يستند إليها تعريف البيانات الضخمة.
لقد سمحت الثورات التكنولوجية المستمرة بتوسعة نطاق التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة كأحد الأدوات الاستشرافية المتقدمة، لتشمل مجالات كانت معالجتها في السابق شديدة الصعوبة أو التعقيد. وبالتالي توفرت لدى المنظمات قدرات أكبر على التعمق أكثر فأكثر في مستودعات البيانات التاريخية والحالية لديها، بهدف استخلاص المعلومات والاتجاهات المستقبلية، وذلك من خلال مساعدة بعض أساليب النمذجة الإحصائية، وخوارزميات التعلم العميق، والتعلم الآلي. وعلى هذا النحو أصبحت التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة جزءاً لا يتجزأ من كافة العمليات والأنشطة اليومية لأغلب الشركات والمؤسسات الحكومية على حد سواء، وهو الأمر الذي ساعدهم بشكل أو بآخر على الفهم الدقيق للمخاطر والفرص المستقبلية، وأعطى لهم ميزة تنافسية كبيرة بالمقارنة مع غيرهم.
فرص متزايدة ومجالات متعددة
تشير بعض التقديرات لمؤسسة (أبحاث السوق المتحالفة) إلى أنه من المتوقع أن يصل سوق التحليلات التنبؤية العالمي إلى 35.45 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2027، بمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) بنسبة 21.9٪ من عام 2020 إلى عام 2027. ولهذا فلا عجب أن يقتصر النشاط الرئيس لبعض المؤسسات والشركات العالمية الكبرى اليوم على توليد وجمع كميات ضخمة من البيانات التي تتنوع في مصادرها بين البيانات المهيكلة التقليدية، والبيانات غير المنظمة مثل إنترنت الأشياء (IoT) والنص والفيديو والبيانات المظلمة.
تاريخياً، كانت تقنيات التحليلات التنبؤية متطورة ومعقدة للغاية، بحيث لم يتمكن سوى علماء البيانات والباحثين المحترفين من استخدامها بفعالية. لكن اليوم أصبحت تلك التحليلات معززة بالعديد من أدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة مثل التعلم الآلي والتعلم العميق والشبكات العصبية، وهي الأدوات التي سهلت عمليات تحليل كميات كبيرة من البيانات بسرعة، بل قامت بأتمتة العديد من الخطوات المعقدة في التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة، مثل إنشاء النماذج التنبؤية الخاصة بها واختبارها. ومن ثم أصبح بإمكان مستخدمي الأعمال الذين لديهم الحد الأدنى من التدريب توليد بعض التنبؤات الدقيقة للأحداث المستقبلية، واتخاذ قرارات استشرافية ذكية في مجالات عديدة، نذكر منها ما يلي:
• الخدمات المصرفية: تستخدم الكثير من المؤسسات المصرفية مجموعات متنوعة من مصادر البيانات الضخمة والتقنيات المعززة للتحليلات التنبؤية بهدف التعرف على مخاطر الائتمان وتقليل التكاليف واكتشاف بعض عمليات الاحتيال المتوقعة. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تساعد التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة العملاء أنفسهم لإدارة حساباتهم على نحو أفضل، وإكمال المهام المصرفية الخاصة بهم بسرعة.
• الرعاية الصحية: من الواضح أن هناك الكثير من المؤسسات والدول التي توسعت خلال السنوات الماضية في استخدام التحليلات التنبؤية المعززة بالذكاء الاصطناعي، بهدف تقييم المخاطر في مجال الرعاية الصحية، وذلك من خلال تعزيز أنظمة الرعاية الوقائية وإدارة الأمراض المزمنة وتقليل المضاعفات الصحية.
• إدارة الموارد البشرية: تستخدم العديد من الشركات اليوم التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة الكمية والنوعية، لتقييم ومطابقة المتقدمين المحتملين للوظائف المختلفة، وكذلك تقليل معدل دوران الموظفين، وزيادة مشاركتهم في عملية اتخاذ القرار. ولا شك أن هذا الأمر يعمل بشدة في اتجاه تقليل تكاليف التوظيف وزيادة رضا الموظفين، وهو أمر تتزايد أهميته بشكل خاص عندما تكون أسواق العمل شديدة التقلب.
• التسويق والمبيعات: يؤكد أغلب الخبراء على أن التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة، تمكن الشركات من أن تكون أكثر استباقية في الطريقة التي تتفاعل بها مع عملائها عبر دورة حياتهم، فضلاً عن كونهم أكثر استعداداً للتعامل مع أية تقلبات محتملة في الأسواق. فعلى سبيل المثال، يمكن لتوقعات التراجع الشرائية، أن تمكن فرق المبيعات من تحديد العملاء غير الراضين في وقت أقرب، وتساعدهم على بدء اتصالات ومحادثات ترويجية مكثفة لتعزيز الاحتفاظ بهم.
• سلسلة التوريد: توسعت معظم الشركات خلال السنوات الماضية في استخدام التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة المتاحة لديها، بهدف إدارة مخزون المنتجات لديها، والتنبؤ بالطلب المستقبلي، ووضع إستراتيجيات التسعير المناسبة، وتحسين عمليات النقل في سلسلة التوريد. ولا شك أن مثل هذه التحليلات التنبؤية قد ساعدت تلك الشركات بشدة على تلبية طلب العملاء دون تكديس المستودعات من جانب. كما أنها مكنتها من تقييم التكلفة والعائد على منتجاتها، وتخطيط مخرونها مع مرور الوقت من جانب آخر.
تحديات ملحة
على الرغم من كل هذه التنبؤات المذهلة بشأن مستقبل التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة في مجالات عديدة، إلا أن أغلب الدراسات والممارسات التطبيقية تكاد لا تخلو من الإشارة إلى بعض التحديات المرتبطة بها، وهي التحديات الثلاثة التي برع في تلخيصها نيل ريتشاردز وجوناثان كينغ، أستاذا القانون في جامعة واشنطن، في دراستهما المنشورة في مجلة (Stanford Law Review)، حينما أكدا أن أولها يأتي من مفارقة الشفافية. ففي الوقت نفسه الذي تعدنا فيه شركات ومستخدمو التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة بجعل العالم أكثر شفافية، نجدهم يعملون في دراساتهم المستقبلية بأدوات وتقنيات غير شفافة على الإطلاق، محاطة بانتهاكات متزايدة لخصوصية الأفراد وأمنهم. لذلك، لا بد من الاعتراف بمفهوم الشفافية في توليد البيانات الضخمة وإدارتها وتحليلاتها التنبؤية بجميع جوانبها من دون استثناء، والعمل بجدية من أجل تطوير الضمانات الأخلاقية والتقنية والقانونية كافة القادرة على تحقيق التوازن الحقيقي بين حماية خصوصية الأفراد واحترام سيادة البيانات.
أحد التحديات الأخرى التي ترافق تطبيقات التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة، تأتي من مفارقة الهوية، فإذا كانت معظم البيانات الضخمة تجمع من المخلفات الرقمية التي يتركها الأفراد وراءهم في الفضاءات الافتراضية، فإن الجمع بين مجموعات بيانية وخوارزميات عدة يمكن أن يؤدي إلى تحديد هوية هؤلاء الأفراد، ما قد يعرضهم لأخطار محتملة، بل الأخطر من ذلك أن الشركات والحكومات التي ستعرف كيفية توليد المعلومات الاستخباراتية من البيانات الضخمة؛ سوف تكون أكثر قدرة على صياغة التقنيات التي تدفعنا نحو ما يريدون، بشكل قد يفقدنا هوياتنا كما حددناها واعتززنا بها في الماضي. فضلاً عن ذلك، فإن تقويض خياراتنا الفكرية، والتأثير على طرق تشكيل هوياتنا الفردية والجماعية، سوف يؤدي بالضرورة إلى تآكل قوة ديمقراطيتنا ونوعيتها.
أما التحدي الثالث والأخير لتوظيف البيانات الضخمة في التحليلات التنبؤية، فيرتبط بتفاوت القوة الناتج عن الفجوة بين من يملكون البيانات ومن لا يملكونها. صحيح أن البعض ينظر إلى أغلبية التحولات التقنية الجديدة كأداة قوة، قد تساعد بشكل أو بآخر في حدوث التمكين السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمستخدم العادي، لكن لا يخفى على أحد أيضاً أن أجهزة الاستشعار والتحليلات التنبؤية المتقدمة، توجد في الأغلب بأيدي مؤسسات وسيطة من الأجهزة الحكومية والشركات التكنولوجية الكبرى، وليس لدى الناس العاديين. ومن المتوقع أيضاً أن تقوم التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة بفتح جبهة جديدة وخطيرة من تفاوت القوى بين دول العالم، تقسمهم بين من يعرفون ومن لا يعرفون. فالحروب القادمة ستكون حروب معلوماتية بالأساس، وبالتالي فإن الذي ستكون لديه القدرة على الوصول إلى البيانات الضخمة والقيام بعمليات التحليل التنبؤية لها، سيكون قادراًعلى تأمين فرص جديدة لتعزيز ذكائه الاستخباراتي، واتخاذ القرارات الصحيحة والمناسبة لأمنه القومي.
يكررون على الدوام أن (التكنولوجيا سلاح ذو حدين). والحقيقة أن تطورات التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة لم ولن تشكل استثناء عن هذه القاعدة. فمع تزايد تأثيرها الواضح في استشراف المستقبل، وعمليات صنع القرار، وتغيير هياكل السلطة في بعض الدول، وليس لمجرد تكوين وجهات نظر مستقبلية فحسب؛ أصبحت حكوماتنا العربية مطالبة بضرورة العمل السريع والجاد من أجل بلورة إستراتيجيات وسياسات رقمية، تضع الاستثمارات في التحليلات التنبؤية للبيانات الضخمة على رأس أولوياتها، وتضمن تحقيق التوازن الحقيقي بين الخصوصية واحترام سيادة البيانات، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحدث دون السعي الدؤوب لدعم منظومة بحث علمي متكاملة وتطويرها من جهة، وصوغ مجموعة أُطر أخلاقية وقانونية وتقنية لجمع البيانات الضخمة، وتخزينها، وتبادلها من جهة أخرى.

ذو صلة