مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

بناء التوقعات في المجتمع المعاصر

تقدم الدراسات المستقبلية تصورات حول ما يمكن أن يكون عليه المستقبل أو ينبغي أن يكون، حيث تعمل الدراسات المستقبلية إلى تشكيل العالم الذي لم يأتِ بعد، من خلال وضع الخيارات التي نتخذها اليوم من خلال الإشارة إلى الآثار المترتبة على المسارات المختلفة في المستقبل. وهنا يذهب منهج الاستشراف في الدراسات المستقبلية إلى التقدم خطوة إلى الأمام من خلال التوصية بأفضل مسار مرغوب فيه يجب اتخاذه، والخطوات اللازمة للوصول إلى تلك النقطة الزمنية. وتتخذ أي تصورات بشأن المستقبل شكل توقعات، مثل: سينخفض الفقر العالمي بحلول عام 2050، سيبلغ عدد سكان العالم أكثر من 10 مليارات نسمة بحلول عام 2100. وكي تكون قادراً في التأثير على الخيارات التي يتم اتخاذها اليوم مع وضع المستقبل في الاعتبار، يجب أن تكون توقعات الدراسات المستقبلية قائمة على بيانات ذات مصداقية. فالبيانات الموثوقة حول المستقبل هي تلك التي تستند إلى تحليل ومبادئ قائمة على أسس سليمة، وتهدف إلى تقديم نظرة ثاقبة مفيدة لظروف الغد.
أصبح من الصعب الآن الدفاع عن علم لا مستقبل له، أو غير مهتم بالمستقبل، لاسيما في عالم تمتد فيه التقنيات والمنجزات الرقمية والنواتج العلمية وآثارها إلى آفاق مستقبلية أخرى، بينما لا يزال يسيطر على بعض العلوم الرؤى الكلاسيكية في دراسة موضوعات تقليدية ترتبط بالحاضر دون الانشغال بالمستقبل وببناء التوقعات. ومن ثم، أضحت مختلف العلوم الآن مطالبة ليس فقط بتوقع المستقبل، ولكن أيضاً في تحقيق مستقبل (سلمي ومستدام). فهناك مستجدات يتم الكشف عنها في توقعات الإنسان وآماله ومخاوفه من المستقبل وخياراته وقراراته، باختصار، فإن المجتمع هو التوقع، حيث يكون المستقبل أكثر انفتاحاً للإرادة البشرية، والناس فاعلون نشطون في خلق حياتهم الخاصة، وأن الحاضر هو مجال الاختيار والقرار والعمل.
عند التفكير في المستقبل، يجب أن يتخلى العلماء في العلوم الاجتماعية عن أدوارهم التقليدية والتنظيرية، ومباشرة أدوارهم بانشغالهم بالمستقبل، من خلال إنتاج المفاهيم التخيلية التي تساعد بشكل أو بآخر في فهم المستقبل من خلال بناء التوقعات وصياغة مستقبلات افتراضية يتحرك في ضوئها المجتمع المعاصر، وبما يمكننا من خلق أنماط للمستقبل القريب والبعيد، وإعادة تنظيم الحياة الاجتماعية التي نعيشها بمفهوم المستقبل ومقوماته ومتطلباته. لذلك لا يمكننا التصرف في الوقت الحاضر إلا على أمل أو اتخاذ إجراءات وقائية لتجنب المستقبل غير المرغوب فيه.
في السنوات الأخيرة أشار عدد متزايد من دراسات العلوم الاجتماعية إلى أهمية التوقعات في العلوم والابتكار التكنولوجي، وقد حاولت تلك الدراسات الإجابة عن مجموعة من الأسئلة حول دور التوقعات في دفع النسق العلمي والتكنولوجي نحو إنجازات غير مسبوقة. فقد كانت هذه التوقعات مصدر اهتمام كبير في الآونة الأخيرة في مجالات واسعة مثل العلوم الحيوية وتكنولوجيا النانو والطاقة.
ومن هنا، يتزايد الاعتراف بالتوقعات والرؤى المتعلقة بالمستقبل بوصفها جانباً مركزياً من جوانب عمليات تطوير العلم والتكنولوجيا وعناصر رئيسة في تحليل وفهم التغير العلمي والتكنولوجي. فأدوار وديناميكيات التوقعات في العلوم والابتكار التكنولوجي هي محور اهتمام متزايد من مجموعة واسعة من العلماء في مجالات مثل الاقتصاد والتاريخ والدراسات الاجتماعية للعلوم والتكنولوجيا والمجتمع.
تتعمق المزيد من الدراسات في دور التوقعات المستقبلية في مختلف ممارسات الجهات الفاعلة المشاركة في عمليات العلم والتكنولوجيا والتفاعلات بينها، ليس فقط العلماء والمهندسون، ولكن أيضاً على سبيل المثال صانعي السياسات، والجهات الفاعلة في الصناعة، ووسائل الإعلام، والمواطنين، والسلطات العامة. علاوة على ذلك، يسعون إلى تطوير مفردات مفاهيمية يمكن من خلالها فهم ديناميكيات التوقعات بشكل أفضل. فتلك التوقعات هي رؤى توليدية تستهدف ترشيد وتوجيه القرار، فضلاً عن تركيز القياسات والحسابات والنماذج. في الوقت نفسه، غالباً ما يتم تطوير التوقعات وإعادة بنائها في الأنشطة العلمية. بمعنى ما، يمكن اعتبارها واحدة من المنتجات المعرفية المهمة للأنشطة العلمية، التي تثبت الجدوى التطبيقية لعلم المستقبليات.
عموماً، فإن صياغة توقع مستقبلي يحمل الكثير من فرص التحقق واليقينية، تتحقق إذا كانت لدينا معرفة كاملة بجميع العلاقات السببية ومعرفة كاملة بالظروف الحالية، فسيكون التوقع المستقبلي قابلاً للتحقق، وستكون معرفتنا بالمستقبل مؤكدة. إلا أن الدراسات المستقبلية في الوقت الراهن توضح أن التوقع المستقبلي اليقيني غير ممكن، لأن النسق العالمي يشهد جملة من التعقيدات في تحركاته السياسية والاقتصادية، ونماذجنا الاستشرافية لفهمه غير مكتملة وغير كافية. باختصار، يجسد فهمنا للعالم دائماً درجة معينة من عدم اليقين. القرارات المتخذة الآن بناءً على معلومات غير مؤكدة محفوفة بالمخاطر. كلما زاد عدم اليقين، زادت المخاطر. وبالتالي، فإن أحد الآثار المهمة للمستقبليين هو تقليل عدم اليقين فيما يفعلونه وينتجونه. من خلال تقليل عدم اليقين، يمكن زيادة المصداقية في بناء التوقعات.
بناء التوقعات
تعد التوقعات والوعود المستقبلية ضرورية لتوفير الديناميكية والزخم اللذين تعتمد عليهما العديد من الدراسات الاستشرافية في مجالات العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا. وينطبق هذا بصفة خاصة على تطبيقات السوق، حيث لم تظهر بعد المنفعة العملية والقيمة، حيث يجب تعبئة الاستثمار. على سبيل المثال، كانت التكنولوجيا الحيوية السريرية (بما في ذلك مجموعة واسعة من التطبيقات العلاجية والهندسية الوراثية) في قلب المناقشات حول ما إذا كانت الوعود والتوقعات ستتحقق أم لا. وفي بعض الحالات، أدى فشل التوقعات أضراراً بالغة بسمعة ومصداقية المهن والمؤسسات والصناعة. إن الحاجة إلى فهم تحليلي أفضل لديناميكيات التوقعات في الابتكار ضرورية لتحقيق منجزات علمية رائدة.
على الجانب الآخر، في مجال الاقتصاد، فإن توجيه الأسواق وتحقيق الرواج الاقتصادي يرتبط بشكل أو بآخر بالتوقعات والتسويق لها، فكلما كانت هناك توقعات إيجابية بالشأن الاقتصادي وتم الترويج لها من قبل الحكومات، فإن ذلك ينعكس بشكل إيجابي على حركة البيع والشراء، وتحقيق النمو الاقتصادي. ودراسات عديدة في هذا المجال، أظهرت تأثير التصريحات الصحفية للمسؤولين الحكوميين على حركة الأسواق وصعود أو هبوط الأسهم المالية.
رقمنة التوقعات
لا تتدخل التقنيات في الوقائع والأحداث الحالية، بل تساهم بشكل أو بآخر في خلق وبناء التوقعات ومتغيراتها الاجتماعية والثقافية العديدة، وكافة المتغيرات الأخرى غير الاجتماعية على المستوى المادي والرمزي. إن الخطاب الذي يحيط بالتكنولوجيا ينتج مستقبلاً متخيلاً، في حين أن الممارسات التكنولوجية الملموسة لديها القدرة على إنتاج مستقبل حقيقي على المستوى المادي. وعلاوة على ذلك، فإن البناء الخطابي لعوالم المستقبل يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على التكنولوجيات التي يتم طرحها إلى حيز الوجود، على سبيل المثال: من خلال توفير مبررات للتمويل، وحشد الرأي العام، والتحريض على توجيه السياسات، وما إلى ذلك. إن الخطاب الذي يدعم التكنولوجيات الجديدة لا يستمد شرعيته فقط من خبرة أولئك الذين يقدمون تلك الادعاءات، ولكن أيضاً من الاعتقاد الواسع النطاق بتحديد التقدم العلمي والتكنولوجي.
من المفترض أن تتم معالجة مشكلات السرعة وعدم اليقين هذه من خلال ممارسات الاستشراف Practices of Foresight كمنهجيات ولدت من رحم الدراسات المستقبلية، وتقييم التكنولوجيا، والتخطيط الإستراتيجي. ويهتم ممارسو التبصر بمؤشرات المستقبل، أو ما نسميه المعرفة الاستباقية أو المعرفة التوقعية Anticipatory knowledge. حيث تضيف تلك المعرفة البعد الزمني إلى أشكال المعرفة وممارساتها، وتضيف كذلك الطابع العابر والمتعدد للمعرفة.
إدارة التوقعات
تستند معظم القرارات المركزية في الاقتصاد، على سبيل المثال، حول الاستهلاك أو الاستثمارات، إلى التوقعات. وعلاوة على ذلك، تحدد التوقعات والقرارات اللاحقة أهم نتائج الاقتصاد الكلي، مثل العرض والطلب، ودورة العمل، وكذلك الفقاعات والانهيارات المالية. يمكن للتوقعات أن تستقر، ولكن أيضاً تزعزع استقرار الاقتصادات، وتدفع إلى أحداث كبيرة. يدرك العديد من صانعي السياسات أن تشكيل المعتقدات والتدخل في ديناميكيات التوقعات قد يكون حاسماً لنجاح إدارة النظام الاقتصادي والأسواق المالية.
وهذا، ينطبق على عدد متزايد من المجالات الاقتصادية. في الوقت الحاضر، يتم استخدام الخوارزميات في سوق العمل لأغراض التوظيف للتنبؤ بأداء العمال المحتملين في الشركات، وفي منصات العمل الجماعي عند الطلب. ويتم تطبيق التنبؤ القائم على الذكاء الاصطناعي من قبل تجار التجزئة لتوقع اتجاهات المبيعات والطلب من أجل الاحتفاظ بالكمية المناسبة من المخزون وتقليل الهدر. كما يستخدم المصنعون الذكاء الاصطناعي لأتمتة سلسلة التوريد وتوقع متطلبات قطع الغيار. وتقوم الخوارزميات بتعريف العملاء لتحديد جدارتهم الائتمانية وحساب رسوم التأمين. وتستخدم البنوك المركزية خوارزميات لتقييم مجموعات البيانات الضخمة للتنبؤ بمتغيرات الاقتصاد الكلي على المدى القصير (التنبؤ الآن) والطويل الأجل.
حوكمة التوقعات
يمكن النظر إلى التوقعات بأنها (خيالات قوية) Forceful Fiction، التوقعات هي (تنبؤات مستنيرة للأحداث المستقبلية). إن التوقعات جزء لا يتجزأ من عمليات الابتكار، ومن هنا، تأتي أهمية علم المستقبل في حوكمة التوقعات من خلال استكشاف المظاهر الملموسة لكيفية تكوين التوقعات والوعود والتخيلات، وكيف يمكن دمج أشكال صنع المستقبل التداولي والانعكاسي في السياسات. وعمليات الابتكار، بهذه الطريقة، تهدف إلى ملء فراغ تحليلي بين المزيد من الدراسات العامة للدور الأدائي للمستقبل الاجتماعي والتقني في العلوم والتكنولوجيا والابتكار والنهج الذي يتعامل مع ممارسات استباقية معينة مثل الاستشراف وبناء السيناريو كأدوات مخصصة في حوكمة التوقعات.
قد يشارك العلماء والاستشاريون على وجه الخصوص في ممارسات المستقبل: كالمشاركة النشطة مع المستقبل، وتوفير توقعات السوق، وتنفيذ عمليات الاستشراف (مثل دراسات دلفي)، أو تطوير نماذج ديناميكية أو سيناريوهات أو خرائط الطريق.
تعبئة التوقعات
على مدار السنوات العشرين الماضية، نظر العلماء في علم المستقبل على نطاق واسع في كيفية (تعبئة التوقعات للمستقبل في الحاضر). يسأل هذا النهج كيف يمكن للتوقعات، باعتبارها (تمثيلات الوقت الفعلي للمواقف والقدرات التكنولوجية المستقبلية) أن تشكل الابتكار العلمي والتكنولوجي والتغيير. إن ما يميز تلك التعبئة هو الاعتراف بأن التوقعات تتدخل في تشكيل العالم، فالتوقع ليس مجرد وصف لواقع (مستقبلي)، بل هو تغيير أو خلق واقع جديد، بمعنى آخر، التوقعات عملية ليست بالبساطة، وإنما تحتاج إلى رؤية وابتكار وإبداع. وقد أوضحت العديد من الأبحاث أن هناك ثلاث طرق يمكن من خلالها أن تتدخل التوقعات بشكل فعال في صناعة العالم: أولاً، يمكنهم توفير الشرعية لمشروع أو تقنية، مما يساعد على تبريرها قبل أن تثبت نجاحها. ثانياً، يمكن أن توفر التوقعات توجيهات إرشادية، مما يساعد مصممو التقنيات على اختيار الاتجاهات عندما يكون هناك العديد من المسارات المتاحة. ثالثاً، يمكن أن توفر التوقعات التنسيق وتعبئة الأشخاص والموارد لبناء التقنيات أو تصميمها أو توسيعها. ومن ثم، توفر التوقعات مجموعة من النتائج المحتملة، ومن هنا، فإن التوقعات الأكثر ترجيحاً هي النتيجة المستخدمة في صنع السياسات والخطط. فالتوقعات هي تنبؤات مشروطة. إن بعض الأحداث أو الحالات ستحدث (أو ربما لن تحدث) في وقت مستقبلي محدد وفي مكان محدد.

ذو صلة