يواجه الواقع التعليمي اليوم أسئلة كثيرة بعد الثورات التقنية والرقمية وما حدث بتأثير منها من هدم للحدود بين الحقول المعرفية المتعددة والاختصاصات المتقاربة-المتباعدة وانفتاح المدرسة على فضاءات مختلفة. ولعل إعادة النظر في طرائق التدريس هي المدخل الأساسي إلى بحث في البدائل الممكنة لتجويد التعليم وإشراك المتعلم-المتلقي في إنتاج المعرفة حتى لا يظل متلقياً سلبياً وتظل معارفه مستقرة.
فالنجاح لم يعد شأناً ذاتياً يعني شخصاً بعينه هو وأسرته فقط، في مجتمعاتنا اليوم، بل إنه بات شأناً عاماً يعني الدولة والمجتمع في آن معاً، لأن ما يترتب على الفشل من نتائج سلبية يمكن أن يمس المجتمع بأسره، هذا إن لم يمس آخرين بعيدين جغرافياً ومختلفين ثقافياً. ومن هذه الجهة فإن التفكير في تجويد التعليم وتحسين مستويات المعلم والمتعلم ومراقبة المردود المعرفي وتطويره ليواكب كل مستحدث أصبحت من الشروط الضرورية لبناء الإنسان الحديث لأن التربية والتعليم هما الحياة نفسها.
فنحن في أوكد حاجة، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية، إلى بناء تصورات جديدة لإرساء واقع تعليمي يجمع بين المعرفة في مستوياتها العميقة وأبعادها المختلفة والحفاظ على هويتنا واختلافنا الثقافي والحضاري. وهذا الجمع ليس مستحيلاً بشرط أن نتخلى عن التلقين واعتبار المعلم هو المصدر الوحيد للمعرفة.
فالعملية التربوية لم تعد تقبل القيام على نقل المعارف كما هي من جيل إلى آخر. فإذا كان كل جيل يواجه أسئلة جديدة وتحديات مستحدثة، فهذا يعني أو يستوجب أن تبنى المعرفة على تغيير أنماط التفكير وأن يكون الرهان الأسمى هو أن نعلم ونتعلم استشكال ما يبدو واقعياً أو بديهياً أو مسلماً به ونحوله إلى موضوع بحث وتفكير. فالعقل البشري ليس كينونة ثابتة جامدة وإنما هو كينونة منفعلة وهو سيرورة تحولات ونمو وتغير مستمر تحتاج إلى أن نتعهدها باستمرار لنتخلص مما لم يعد له مردود معرفي أو لما تحول إلى عائق أبستيمولوجي يعطل التغيير والتحديث.
ولعل المدخل الأمثل لتحقيق هذه الرهانات وغيرها هو توظيف التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي لتدريب المتعلم على الإنصات إلى الآخر ومحاورته وليعرف أن العالم أوسع من أن يختزل في صورة واحدة. فهذه هي الخطوة الأولى نحو قيم الحرية والتفكير النقدي وتنسيب كل ما نتوصل إليه من نتائج والشك شكاً معرفياً خصيباً في ما ورثناه أو ما وفد ويفد علينا.
وعلى هذا المدخل تبنى مطالب أخرى، منها استقراء الواقع التعليمي والثقافي العربي في خصوصياته وأسئلته المتشعبة، ومحاولة فهمه لتغييره دون أن نقع في خطأ فادح وهو أن نسقط عليه من النظريات ما لا يلائمه أو ما يحدث في شخصية المتعلم مزيداً من الشروخ الناشئة أصلاً عن التعارض بين تحديث مس البنى الظاهرة في الحياة العامة وتقليد وقدامة يتعلقان بنمط التفكير ورؤية الذات والكون. فأوكد العلاجات اليوم هو تدريب الذات على التفكير النقدي المزدوج أي نقد الذات ونقد الآخر في آن معاً. فبهذا النقد المزدوج نتخلص من التقليد بشقيه: تقليد القديم الذي فقد كفايته المعرفية الجمالية وتقليد الآخر الذي أجاب عن أسئلته الخاصة التي تختلف بالضرورة عن أسئلتنا. وهذا هو الباب الواسع الذي نلج من خلاله عالم العقلانية والتفكير الحر والإبداع الكفيل باستنبات الأجوبة الممكنة لأسئلتنا الخاصة.
والمؤسسة التربوية هي الفضاء الأمثل لتجريب كل هذه الإبدالات ولكن بشرط أن تتحول من مؤسسة للتحبير (Rédaction) إلى مؤسسة للتفكير (Réflexion) لأنها هي التي يفترض أن تبنى فيها الذوات وتنتج فيها القيم وتشكل فيها الرمزيات وتشرح فيها النصوص على اختلاف مصادرها وأنواعها، ولذلك فهي الفضاء الذي يجب أن يراهن عليه، فإما أن نتدرب فيها على الحوار والنقاش والسؤال والنقد والتفكير، وإما أن نحولها إلى فضاء للتلقين والإملاء ومصادرة الآراء التي لا نتفق معها أي أن نحولها إلى سجن ناعم.
ولتكون المؤسسة التربوية على النحو الذي نريده لها ولكي تنهض بوظيفتها التعليمية والتربوية والتثقيفية على الوجه المرتضى، فعلى المجتمع بأسره -وإن اختلفت آراء مواطنيه وتباينت مستويات عيشهم وتعددت تصوراتهم- أن ينظر إلى المؤسسة التربوية باعتبارها فضاء رمزياً يجب أن يصان وأن يكون في مأمن من حدة الصراعات لأن التنشئة الأولى للمتعلم وخروجه من حيز الأسرة إلى حيز أوسع تبدأ فيه حياته الاجتماعية في التشكل شيئاً فشيئاً تحتاج إلى أن يكون ثمة حد أدنى من التوازن ووعي بضرورة الانتباه إلى ما يمكن أن يوجد من صعوبات ذاتية وموضوعية تعطل السير الطبيعي لعملية التعليم والتدريب والاختلاط بالآخر. فمن ضرورات هذه المرحلة مراقبة الكفاءات والمهارات المتوفرة لدى الطفل وتعزيزها والارتقاء بها إلى مستويات أعلى لإكساب المتعلم الثقة في النفس وتعويده على مواجهة الصعوبات والتفكير في حلول لها وإشراك الآخرين من حوله في التفكير معه. فهذه التمارين على بساطتها هي بداية الأنسنة. فالإنسان صناعة التربية ونتاجها. وهاهنا يصبح مفهوم التربية شاملاً لا يقبل أن يختزل في الدرس فقط. وإنما يتخطاه إلى كل ما يتعلمه الطفل في فضائه التربوي بما فيه من اختلاط وتذاوت وتفاعل ومحاكاة للمعلمين وغيرهم. فتخصيص حاوية مثلاً في مكان ما لوضع الأوراق الممزقة ودعوة المتعلمين إلى رمي ما يريدون التخلص منه فيها يعزز لديهم الإحساس بالمسؤولية إزاء أنفسهم وإزاء الآخر وإزاء المكان. وحتى إن لم تكن النتائج جيدة أو مشجعة في البداية، فإن التكرار والمعاودة والإلحاح في تثبيت ذلك السلوك أفضل بكثير من التسليم باللامبالاة وترك المتعلمين لأهوائهم وعاداتهم السيئة مثلاً. وهكذا فإن الفضاء التربوي يتحول من فضاء للتلقين والأمر والنهي إلى فضاء لأنسنة الذات والعلاقات مع الآخر ومع الكائنات والأشياء أي على فضاء للتدريب على الحياة من أبسط مظاهرها إلى أعقدها.