مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

مهارات القرن الحادي والعشرين.. المفهوم والتحديات

يستدعي الاهتمام بمهارات التعلم في القرن الحادي والعشرين (21 st Century Skills) الاهتمام ببناء قدرات الطلاب والعمل على تنميتها عبر إكساب المتعلمين المهارات الأكثر صلة بحياتهم المعاصرة، والأعلق بمشاغلهم والأنسب لسوق الشغل العالمية.
ولعل أنصع تعريف لمهارات القرن الحادي والعشرين ما جاء في أدبيات اليونسكو حين حدتها باعتبارها (مجموعة من القدرات المعرفية والشخصية التي تساعد المتعلم على اتخاذ قرارات مستنيرة، وحل المشكلات والتفكير النقدي والإبداعي، والتواصل بفعالية، وبناء علاقات صحية، والتعاطف مع الآخرين والتعامل مع حياتهم وإدارتها بطريقة صحية ومنتجة).
ولقد أوضحت الدراسات العديدة أن طلاب عدداً من جامعات الدول في العالم حين يتخرجون من كلياتهم يفتقدون لبعض المهارات الأساسية والتطبيقية. إنهم لا يحسنون التواصل الشفوي، ولا يمتلكون مهارات الإنتاج الكتابي، بل الكثير منهم لم يكتسب قدرة على التفكير النقدي، ولم يمهَرْ في حل المشكلات المستجدة. إن خريجي الجامعات لم يتعودوا على العمل ضمن فرق، ولم يبرعوا في استخدام التكنولوجيات الحديثة، ولم يوظفوها في قيادة المشاريع أو إدارتها.
وتشير التقارير الدولية إلى أن فجوة مهارات القرن الحادي والعشرين تكلف قطاع الأعمال والاقتصاد مبالغ ضخمة تُعيق الشعوب عن التنمية وتمنعهم من تحقيق الرفاه المادي. ولهذا تدأب الحكومات في البحث عن العمالة المدربة، وتعمل على استقطاب الكفاءات العالية كي تتجنب نفقات تدريب الخريجين الجدد، وتأهيلهم لمقتضيات سوق الشغل.
ولما كانت نُظم التعلم وطرائق التدريس في العالم تُواجه تحديات مستمرة أصبح من الضروري إيلاء مهارات التعلم في القرن الحادي والعشرين ما تستحق من العناية، مادام التعليم هو القاطرة القادرة على تشكيل عقول الناشئة، وهاديتهم نحو صقل ذواتهم وإعدادهم لواقع الحياة العملية المتبدلة المتسارعة سُرعة العصر وتحولاته المستمرة. ولهذا وغيره من الدواعي دأبت الدول كافة على العناية في سياساتها التربوية وفي مناهجها الدراسية، وفي برامجها الرسمية ومقرراتها بتلك المهارات فمنحتها الأولوية القُصوى.
وقد استدعى إدراك هذا المطلب الحضاري، الانسجام مع توجهات اليونسكو التي نادت منذ سنة 2015 جميع الدول إلى إحلال مهارات التعلم في القرن الحادي والعشرين ما تستحق من المكانة وما تقتضيه من العناية والاهتمام. وشددت على أن معيار التقدم بين الدول، إنما يُقاس بمدى قدرتها على إنتاج معرفة حديثة تحقق التراكم وتضمن التنافس والجودة. ولا بد لتلك الدول من أنْ تعبُر نحو مجتمع المعرفة (Knowledge Society)، الذي ينبني على إعادة هندسة منظومة الإبداع والابتكار، وهو ما سيمكِّن تلك المجتمعات من الانتماء إلى الاقتصاديات التكنولوجية ويسمح لها بتصدر مراتب متقدمة في مجال التعليم.
وعلى هذا السمت يمكن القول إن مهارات التعلم في القرن الحادي والعشرين تنسجم تمام الانسجام مع ما قررته أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (The Sustainable Development Goals)، وهي خطة أممية ترمي إلى تحقيق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع. وتتصدى هذه الأهداف للتحديات العالمية التي تواجهها، بما في ذلك التحديات المتعلقة بالفقر وعدم المساواة والمتصلة بالمناخ وتدهور البيئة والازدهار والسلام والعدالة.
وفضلاً عن ترابط الأهداف، وللتأكد على ألا يتخلف أحد عن الركب؛ فمن المهم تحقيق كل هدف من تلك الأهداف بحلول عام 2030. وتتسم هذه الخطة بالمرونة، مُرونة تسمح بقابلية التحديث والتطور، وتمكِّن من الاستفادة من رُكام المعرفة والتغذية الراجعة. غير أن الخطة الأممية شددت على ضرورة مراجعة سياسات الدول وتوجهاتها، كي يُمكِّن ذلك من إعداد مواطن القرن الحادي والعشرين المتشبع بالقيم الإنسانية والمشارك الفاعل في ثقافات الشعوب، والمفكر الناقد، والمبدع الآخذ بأسباب التكنولوجيا والحداثة.
تجارب رائدة
لعل التعرف إلى فُضلَى التجارب والممارسات الدولية في مجال دمج مهارات القرن الحادي والعشرين في المناهج الدراسية وفي التعليم بوجه عام، يعد السبيل القويم الذي سيسمحُ بتقديم إطار مقترح لدمج تلك المهارات في مناهج الدول الدراسية. ومن هذه التجارب الرائدة في التعلم تجربة سنغافورة وفنلندا وكوريا الجنوبية ممن تمكنوا من تحديث مهارات المتعلمين.
فهذه سنغافورة قد ركزت على التعلم الشامل بدلاً من كثرة الاختبارات وتعددها، واستثمرت، رغم قلة مواردها الطبيعية، في الرأسمال البشري، فانتهجت سياسة إصلاحية في مجال التعليم، وطورت منهاجها حين ربطت التعليم النظري العام بالتعليم التقني، وأرست دعائم التكوين المستمر، فنجحت في الجمع بين المناهج الدراسية وخطط التنمية الاقتصادية.
لقد خصصت الدولة السنغافورية أكثر من 20% من دخلها القومي للتعليم، وسعتْ إلى استقطاب المعاهد والمؤسسات التعليمية ذات السمعة العالمية الجيدة. وقد شجعت بموازاة ذلك على أسلوب التعلم الإبداعي في التدريس، وحثت الطلبة على التفكير الحر المستقل بوصفه أحد مكونات التعليم النوعي. ولم تغفلْ سنغافورة، وهي تجدد مناهجها الدراسية، أنْ تعد المعلم باعتباره رأس الحربة في العملية التعلمية، بل طال اهتمامها جميع العاملين والمتدخلين في المؤسسة التربوية. لقد جددت مكتسبات المعلم، ورفعت من كفاءته، وخففت عنه أعباء اليومي، ومنحته التشجيعات المالية المناسبة، كي يتفرغ لرسالته النبيلة ويقدم أفضل ما يعرف لطلبته. وبفضل هذه السياسة غدت سنغافورة من أفضل دول العالم في التعليم، واستقطاب الطلبة الدوليين، وحصدتْ المراتب العالمية الأولى. كما تبوأتْ مركزاً مرموقاً في جودة نظم التعليم حسب التقرير الدولي الشامل لعاميْ 2007 - 2008.
ومن التجارب الدولية الناجحة في مجال دمج مهارات القرن الحادي والعشرين في المناهج الدراسية وفي التعليم، يمكن أنْ نذكر تجربة فنلندا التي آمنت مبكِّرا بأهمية إصلاح التعليم، وراهنت على دوره في تحقيق التقدم والرفاه الاقتصادي، فسعت إلى فرض المساواة في الفرص التعليمية بين المواطنين من الجنسيْن، ولم تُهملْ أي منطقة من مناطق البلاد. علاوة على أنها لم تميِّزْ عرقياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً بين مواطنيها. وهي التي رفعت شعار مجانية التعليم في جميع مراحله، وأحلت المعلم مكانة مرموقة في مجتمعها، ووفرتْ له برامج متطورة واعدة. وهذا وغيره هو الذي جعلها تتصدر قائمة أهم 50 دولة في العالم ممن تمتلك بنية تحتية اتصالية رفيعة المستوى عالية الجودة.
وأما كوريا الجنوبية فقد أقامت تعليمها على الكفاءة وحدها، متخلية في الوقت ذاته
لقد دعا مركز إعادة تصميم المناهج  إلى ضرورة مراجعة معارف المتعلمين ومهاراتهم الشخصية مراجعة شاملة ومعمقة. فشدد على ضرورة إيلاء مهارة التفكير الناقد ما تستحق من العناية، وهي مهارة أساسية تُكسِب المتعلِّمين القدرة على طرح الأسئلة بشجاعة وحرية، وتؤهلهم لمناقشة جميع الأفكار دون خوف أو مصادرة رأيهم من قبل الآخرين. ودعا بموازاة ذلك إلى ضرورة انتهاج التفكير الإبداعي لدى المعلِّم والمتعلِّم على حد سواء. ونادَى بإيلاء المدرسين الأهمية المطلوبة، وشجع على منحهم قدراً من الاستقلالية والابتكار، كيْ يتمكنوا من صياغة مناهج دراسية تتناسب مع احتياجات المتعلمين، وتُوافق روح العصر. وحثهم مراراً على انتهاج طرق تدريس مبتكرة كالتعلم الممتع، والتعلم المدمج والتعلم من خلال بيداغوجيا المشروع، والتعلم بالتجربة، واعتماد مناهج متعددة الاختصاصات كمنهج (Science، Technology Engineering، Arts and Mathematics)، وهو نظام تعليمي يستهدف دمج تلك المواد الدراسية التعليمية الخمسة في المناهج الدراسية الأساسية والمزج والترابط بينها.
ونصح الخبراء الدول باعتماد نظام (STEAM)، وهو نظام يعمل على تهيئة عقل المتعلمين على التعامل مع العلوم والفنون المعاصرة، ويُساعد على تأهيلهم للالتحاق بالوظائف المستقبلية التي تتطلب الخبرة العلمية التي لا غنى عنها اليوم في العديد من المجالات والتي تشمل جميع الميادين كالهندسة، والتكنولوجيا، والعلوم، والفنون والرياضيات. وقد تم التشديد على أهمية القدرة على التواصل والتعاون باعتبارهما من مهارات القرن الحادي والعشرين الجوهرية.
وتم التأكيد على مركزية الثقافة المعلوماتية في العملية التربوية. وهو ما وجدنا صداه واضحاً في توجهات المجلس الاستشاري الدولي للتعلم (The International Advisory Board) الذي أقر بأن التعلم في القرن الحادي والعشرين يرتبط عضوياً بتقنية المعلومات.
ففي هذا العصر يحتاج الطالب اليوم أنْ يكتسب مهارات الثقافة الرقمية (Digital Literacy Skills)، كما يتوجب على الجيل الشبكي أن يحذق الثقافة المعلوماتية والاتصال، كي يتمكن من الوصول بيسر وأمان إلى المعلومات الوفيرة على البوابات ومواقع الإنترنيت، وأن يستخدم تلك المعارف المتنوعة بفاعلية ومهارة، وأن يوظفها في الخلق والابتكار، وأن تكون حافزاً له على إبداع منتجات جديدة. ولهذا
الاعتبار تتنافس الشركات والدول اليوم من أجل تطوير مهارات المتدربين، وتعمل حثيثاً على تجهيز المدارس بالمعدات التقنية علها تكون (أنبوب ضخ عمال المعرفة للمستقبل).
وتمثل الأدوات الرقمية والإنترنيت أدوات قوية للتضخيم والتخزين وتوسيع مداركنا من أجل التفكير والتواصل، وبناء القدرات والمشاركة في المواهب. وهو ما سيمنح الأفراد الفرصة لتطوير مواهبهم ويمكنهم من تحقيق ازدهار في مجتمعاتهم، عبر الإسهام الفاعل في اتخاذ القرار التشاركي في شؤون الحياة والمجتمع. غير أن تنامي المعلومات على شبكة الإنترنيت وسهولة الوصول إلى المعلومة يستدعي من واضعي البرامج وراسمي سياسات التعليم إكساب المتعلمين القدرة على التفكير النقدي، وحذق مهارات الثقافة المعلوماتية استخداماً يقلِّل من مخاطر المغالطة والتضليل.
ولأهمية مهارة الثقافة المعلوماتية والاتصال دعوا مثلاً المعلِّمين والمتعلمين معاً إلى استخدام تطبيقات (Google Docs)، وهي تطبيقات تمكِّن من حفظ أعمال الطلاب وتساعد على تبادلها، وتُسهِم في تطوير مهارات المتعلمين وتُعين في تغذيتهم الراجعة وتعمل على تمكينهم من قدرات تُلائم واقع الحياة وتوافق متطلبات سوق الشغل المتحولة العالمية. وكما أكد ريتشارد دايلي وزير التربية في فترة رئاسة بيل كلينتون سنة 1991، فنحن حين نُكسِب طلابنا مهارات القرن الحادي والعشرين فإننا نعدهم (لوظائف غير موجودة الآن، باستخدام تقنيات لم يتم اختراعها بعد، لكيْ يحلُّوا مشكلات لا نعرفُ بعدُ ما إذا كانت مشكلات).
وهذا النهج من التفكير هو الذي قاد إلى شيوع مفهوم (المواطنة الرقمية)، وهي تعني فيما تعنيه خلق متعلِّمين مدركين لتطبيقات الأنشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتفتح الذهني حول الفرص التي تُتيحها تقنية المعلومات لحل المشكلات والتفكير الابتكاري.

توزيع الخدمات والمنتجات
وبهذا الذي أسلفنا اقتضي عصر المعرفة مهارات جديدة تستدعي قدرة المتعلِّم على التفكير، وتستنفِر فيه كفاءة التواصل الناجع وإتقان تكنولوجيا المعلوماتية والاتصال في أداء مهامه والقيام بالأعمال المناطة بعهدته. لا بد إذنْ للخريج الجامعي الجديد أنْ يجتهد في تملُّكِ مهارات حل المشكل وأنْ يبرع في التواصل وأنْ يقدِر على العمل ضمن فرق مختلفة، وأنْ يستخدم التقنية الاستخدام الأمثل. وقد قيل إنه لكي تكون مُساهماً منتجاً في القرن الحادي والعشرين، ينبغي أنْ تكون قادراً على أنْ تتعلم بسرعة محتوى جوهرياً في مجال ما من المعرفة، وفي الوقت نفسه إتقان مجموعة واسعة من التعلم الأساسي والإبداع والتقنية ومهارات المهنة للعمل والحياة. وهكذا حلت في عصر المعرفة، (عصر المواطنين المرتبطين ببعضهم عن بعد)، القوة العقلية محل القوة العضلية. إن الهدف من تنمية مهارات القرن الحادي والعشرين، إنما هو بناء مجتمعات أكثر تألقاً وإبداعاً، وثراء ثقافياً.
الخاتمة
ختاماً يمكن القول إن التحول الجذري إلى اقتصاد المعرفة، قد اقتضى ضرورة امتلاك الأفراد مهارات حل المشكلات، والتوسل بحلول إبداعية ستمكنهم حتماً من تقليص الفجوة التي يُعانيها جيل اليوم بين المهارات التي يتعلمونها في المدرسة، وتلك التي يحتاجونها في الحياة.
ولما كان السؤال المهم الذي سعينا أن نفككه هو: ما الذي يجب أن يتعلمه المتعلمون من مهارات ضرورية في القرن الحادي والعشرين؟ صار لزاماً الانتباه إلى مسألة إدراج كفايات معرفية جديدة ومتجددة في التعلم، وبات مهماً استخدام سلوكيات عديدة مختلفة في صُلب التعلم، وهو ما من شأنه أن يُدرج تلك المعارف في الممارسة التعلمية، وأن يُمكِّن خريجي المدرسة من العمل بشكل أيسر في مجتمع عالمي متزايد التعقيد، متنامي التطوُّر.

ذو صلة