مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

المنظومة القيمية وتأثير العولمة

تواجه المجتمعات الإسلامية في عصر العولمة أحداثاً متلاحقة وتطورات متسارعة، جعلت عملية التغيير أمراً ضرورياً لهذه المجتمعات، والتي انتابها القلق من أن تؤدي هذه التحولات المرتبطة بالتطور العلمي السريع، إلى التأثير على قيمها ومبادئها وعاداتها وتقاليدها، إذ يشهد العالم المعاصر اليوم تغيراً معرفياً وقيمياً غير مسبوق، لوجود نهضة في تبادل العلم والمعرفة بفعل العولمة وثورة التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات، وأضحت دول العالم وشعوبه تتأثر بما يجري في أي مكان في العالم، الأمر الذي يتطلب إعداد أجيال محصنة بالعلم والمعرفة والقيم، ولديها القدرة على مواجهة التحديات والتصدي لها، وقابلة للتعامل مع المتغيرات والظروف المتسارعة بنجاح.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا الانفتاح الإعلامي الواسع للمجتمعات الإسلامية على العالم الخارجي، من خلال القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية وما تبثه من غزو ثقافي وفكري، وما أفرزته من اتجاهات وأفكار غريبة، وما حملته من قيم وأنماط ومعتقدات دخيلة على مجتمعنا الإسلامي والشباب المسلم، وما تروجه وسائل الإعلام من برامج تلفزيونية هابطة ذات تأثير سلبي على العقل والفكر؛ أن يكون له انعكاسات سلبية خطيرة على فكر وسلوك الفرد.
وبما أن الشباب هم الفئة الأكثر حساسية على المستوى الاجتماعي، والأكثر حيوية والأعلى تأثراً بتيارات الفكر الدخيل والعولمة، فقد حرصت المجتمعات الإسلامية على تسخير كافة القوى والإمكانيات لحماية هذه الفئة، من خلال تشكيل نسق قيمي إيجابي لدى الشباب، قادر على مواجهة الانحرافات الفكرية والانفتاح الثقافي والإعلامي المتزايد وتعزيز الاتجاهات الإيجابية، من خلال قنوات التثقيف وبرامج التنشيط الذهني والوعي الديني والاجتماعي، وعليه يتضح الدور الأساسي الذي تلعبه منظومة القيم في توجيه ميول وطاقات المجتمعات والشعوب، لاسيما عندما يتوافر لهذه القيم المناخ المناسب لممارستها عملياً، عندها تصبح القيم سلوكاً حضارياً من الفرد يمارسه بصورة تلقائية ورقابة ذاتية، فتكون المصدر والموجه والقانون والمعيار الضابط المنظم لأفكار ومشاعر وجهود وطاقات الأفراد والمجتمعات، فعلى سبيل المثال عندما تأصلت وتجسدت منظومة القيم الإسلامية الحضارية، في عهد النبي محمد صـلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، تمكنوا من صناعة حضارة وبناء أمة جديدة، لم تكن موجودة من قبل وفرضت نفسها على الحضارات الأخرى.
لذلك وأمام كل هذه الأمور يجب أن ندرك بأننا أمام صياغة جديدة لعالم جديد، مغاير تماماً لعالم ما قبل العولمة، فهذا الوضع الجديد قد فرض تحولات جذرية في أساليب الحياة المعاصرة، وربما مغايرة تماماً عما كان مألوفاً في الماضي في مجال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب دوره المؤثر في إحداث تغييرات واسعة النطاق على مستوى النظم والمؤسسات المختلفة.
أهمية القيم في عصر العولمة
تمثل القيم في عصر العولمة مرتكزاً حقيقياً، لقياس قدرة المجتمعات على مواجهة التغيرات والتحولات الفكرية والثقافية، فتعدد منافذ الهجمات الفكرية يحتم على المؤسسات أن تنتظم في ظل إستراتيجية شاملة طويلة الأمد، تتوحد فيها الجهود والموارد لتحقيق الأهداف في مواجهة التحديات الخارجية، كما تمثل القيم الأركان الحيوية والأسس الراسخة التي يقوم عليها أي مجتمع، نظراً للدور المؤثر والفاعل الذي تؤديه في بناء حياة الفرد، ووظائف متعددة لضبط السلوك وتوجيهه، بل في تطور ورقي الدول والمجتمعات واستقرارها في جميع المجالات.
وتتأكد أهمية القيم في الحاجة إلى إحياء معانيها لدى أفراد المجتمع، في عصر طغيان التفكير المادي وغياب التفكير الإسلامي الصحيح الذي يتسامى على المادية والنفعية ويحترم مصالح الآخرين، حيث أنها تساعد في بناء شخصية إنسانية متزنة لها أهدافها وغاياتها، تحمي الفرد من الانحرافات والتجاوزات التي قد تنال من إنسانيته وكرامته، وتمنحه القدرة على التكيف والتوافق الإيجابيين، وتحقيق الرضا عن نفسه لتجاوبه مع مبادئ الجماعة وعقائدها الصحيحة، وفي الوقت ذاته تتجلى أهمية القيم، في وضع قوانين التعامل والتعاطي بين أفراد المجتمع الواحد وبين المجتمعات بعضها البعض، وتقي المجتمع من الأخطار المحدقة التي تهدد أمنه واستقراره ووحدته، وتحفظ له هويته ومعتقداته وثقافته.
فالمجتمع المتقدم هو المجتمع الذي يبني وجوده ومستقبله على منظومة القيم الأخلاقية الفاضلة، التي تمثل معاقد ثابتة وأسساً راسخة يعتمد عليها في تنظيم حياته الاجتماعية والاقتصادية، وبالعلم يفسر المجتمع الظواهر الحياتية المختلفة التي توجد في الحياة الإنسانية، فيقف على طبيعة هذه الظواهر ويفهمها ويتحكم بها، ويتنبأ بما يمكن أن يطرأ عليها في المستقبل.
مواجهة الهيمنة الثقافية
عندما تكون التيارات الفكرية الطارئة جارفة وقوية ومنظمة كهجمات خارجية، لا بد أن تتم مواجهتها بتنظيم لا يقل احترافية عن تنظيم من سخروا هذه التيارات للنيل من المجتمع، ولأن مواجهة الفكر لا تكون إلا بالفكر، لذا يجب العمل على إيجاد أنجع الوسائل، من أجل ترسيخ المنظومة القيمية وغرسها بين مكونات وأطياف المجتمع، وإرساء مبدأ الشفافية والحوار، إضافة إلى دعم شراكة الشباب في خطط التنمية القيمية.
وقد بدأت المجتمعات الإسلامية تدرك بأن أخطر أنواع التحديات التي تواجه الأفراد في الوقت الحاضر، هو الغزو الفكري والانفتاح الثقافي الذي سمح بانتشار كثيف وواسع للمعلومات على اختلاف مستوياتها، بانسيابية غير مسبوقة بين مختلف الفئات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والتي فتحت الباب على مصراعيه لتدفقٍ معلوماتي ومعرفي واتصالي هائل، محدثة تغييرات جذرية في الوعي الاجتماعي والمنظومة القيمية، مثيرة في الوقت نفسه مخاوف حقيقية من أن يؤدي الاستخدام الواسع والمفتوح لهذه المواقع دون قيود أو حدود، إلى حصول آثار سلبية على منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية والدينية، والخوف من أن ينشأ جيل جديد من الشباب المشبع ببعض الأفكار، والقيم والمعتقدات المخالفة تماماً لقيمنا وأعرافنا وعاداتنا ومعتقداتنا الإسلامية.
خصوصاً أن هذه الفئة بدأت تعيش انفتاحاً معرفياً وثورة تكنولوجية عارمة تروج لها أدوات الدعاية المنتشرة حول العالم، بما يخدم غايات مروجيها وما تسعى لتحقيقه من أهداف عبر هذه الأجهزة الموجودة بين أيدي أبنائنا، مستهدفة بشكل مباشر وغير مباشر سلوكياتهم وأفكارهم وقيمهم الأصيلة، إذ أصبحت تشكل مصدر قلق حقيقي يعرض منظومة الأخلاق والقيم النبيلة للخطر، بحيث يرى أصحاب الفكر الثقافي المتطرف في هذه الشبكات، فرصة ذهبية ومجالاً خصباً لبث سمومهم بين فئات المجتمع على كافة أشكاله وطبقاته ونشر معتقداتهم وأفكارهم الهدامة، والتي تتنافى مع المعايير والقيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية، إذ ليس هناك أدنى شك في أن الكتل المعلوماتية غير المسبوقة التي شهدها العالم في الربع الأخير من القرن العشرين، أدت إلى إحداث تغييرات مهمة وعميقة في كافة مجالات الحياة المعاصرة.
لذا ومن أجل مواجهة أخطار الهيمنة الثقافية وتحدياتها، والتي تستهدف الشباب بالدرجة الأولى، ومن أجل تحصين هذه الفئة من الأفكار المضللة والهدامة؛ بات من الضروري الحفاظ على الذاتية الثقافية، والارتقاء بالفكر والسلوك الإنساني في المجتمع إلى مستوياته العليا، والعمل على استثمار وسائل التواصل الاجتماعي استثماراً إيجابياً لما لها من تأثير كبير على المنظومة القيمية واستخدامها في توعية الشباب، إذ أن الشباب يحتاجون اليوم لمنظومة قيمية تمثل قناعاتهم الرئيسة، تشكل جزءاً من مفهوم الذات لديهم، وتكون شخصياتهم، وانطباعاتهم، إضافة إلى أن المنظومة القيمية تمكن الشباب من تحديد أهدافهم، واتخاذ القرارات المتعلقة بهم، ومواجهة المستجدات والتغييرات الحاصلة حولهم بكفاءة عالية، مع إيجاد حلول ناجعة للمشكلات، ولا يتم ذلك إلا من خلال إنشاء مواقع متخصصة تعمل على توضيح الشائعات والملابسات والأفكار المنحرفة في إطار برامج وقائية، متضمنة خططاً قصيرة وأخرى بعيدة المدى، بحيث تكون هذه المواقع مراجع موثوقة ترفع من مستوى الوعي لدى الشباب، وتعزز مستوى التعامل الإيجابي لمواجهة مشاريع الهيمنة الثقافية والانحرافات الفكرية.
دور المؤسسة التربوية
في ضوء التطورات المذهلة والتحديات الجسيمة التي تطرحها الألفية الثالثة، والتي شملت جميع مناحي الحياة العصرية؛ أصبح العالم اليوم أكثر تعقيداً نتيجة التدفق الهائل للمعلومات وما أفرزته العولمة في المجالات كافة. وربما كان النجاح في مواجهة هذه الهجمة الشرسة، يقع على عاتق المؤسسة التربوية في نشر المنظومة القيمية، من خلال تبني برامج تربوية وفكرية، تحتضن بها الأجيال القادمة وتوفر لهم المناخ الملائم، للاستفادة من مواهبهم وقدراتهم المبدعة الخلاقة في مواجهة الانحرافات الفكرية ورفع الاتجاهات الإيجابية لديهم، بما يحقق السعادة والرضا النفسي والمعاني الصائبة للقيم، فالتحدي الكبير الذي تواجهه المؤسسة التربوية في الفترة الراهنة، هو كيف تتغير المدارس والجامعات ومؤسسات التعليم العالي لتفعيل دورها من أجل مواجهة التحدي القيمي والأخلاقي، والاختراق الثقافي للعولمة.
وهنا يجب على المؤسسة التربوية اعتماد خطط إستراتيجية نوعية، من أجل النجاح في مواجهة ظاهرة العولمة المتزايدة والتكيف والتأقلم معها، وإحداث التأثيرات المعلوماتية والثقافية، بما يحقق أهداف العملية التربوية بكفاءة وفاعلية، من خلال التركيز على مناهج التعليم والبرامج التربوية، إضافة إلى ذلك توظيف التقنيات الحديثة توظيفاً فعالاً، والتعامل مع الواقع بروح عصرية، للانتقال بقوة إلى معطيات القرن الحادي والعشرين، كي تستطيع دول العالم الاسلامي أن تحقق لأبنائها المزيد من التقدم وتضعها في المكانة الأفضل في هذا العالم.
فالتعليم المبني على قواعد متينة من القيم الأخلاقية، هو السبيل الرئيس لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل الذي يكفل مواكبة التقدم، وإرساء النهضة الحضارية للأمة، وإعداد الأبناء للقرن الحادي والعشرين بخطى ثابتة، والعنصر الفاعل في مواكبة التطورات العالمية المعاصرة، وما من شك في أن من أهم التحديات التي يقابلها التعليم هي في الواقع تحديات على مستوى القيم، فليس المهم أن تسعى المجتمعات لبناء مجتمع معلوماتي متطور، بل الأهم هو الوصول إلى المصدر الحقيقي للقوة، وهو إعداد الأجيال المبدعة القادرة على مواجهة التحديات المستقبلية ومسايرة التغيرات المتسارعة، بما يضمن تحقيق نقلة حضارية نوعية متقدمة، وبناء تصور أكثر صلابة للمستقبل، المستقبل المبني على العلم والمعرفة، المتسلح بالمنظومة القيمية والأخلاقية.
لذلك يمكننا القول إنه وفي ظل هذا التسارع المذهل الذي يعيشه عالم اليوم في مختلف جوانب الحياة العصرية، والتغييرات المتلاحقة التي تشهدها الألفية الثالثة، وما فرضته من تحديات واستحقاقات جديدة على المجتمعات كافة، وفي زحمة إعصار العولمة والتطور العلمي الهائل الذي تحقق في القرن الواحد والعشرين؛ أصبح من الضروري على المجتمعات الإسلامية الوقوف بكل حزم وعزم أمام التيارات الفكرية المنحرفة، والاتجاهات الضالة، والفئات التي تسعى لترويج أفكارها الهدامة ومعتقداتها وأيديولوجياتها بين أطياف المجتمع المسلم، التي تنادي بتحجيم الأحكام الشرعية وتهميش الآداب والقيم الأخلاقية، وكل هذا لا يتم ولا يتحقق إلا بتعاون الجميع والشعور بالمسؤولية لدرء الأخطار المحدقة والتصدي لها.

ذو صلة