مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

بين زمنين

هل الاعتراف بحقيقة الزمن وسطوته تواطؤ (بالتراضي) على توقيع شهادة النهاية؟ هل كتبت النهاية؟! هربت من كلمة (الموت) لكن كلمة الموت أدق من جهة وأوسع من أخرى، فالموت حالة مستمرة تستبطن حياتنا. كل يوم نشيّع عزيزاً، وفي كل التفاتة يموت فينا معنى، كما تموت خلايانا لحظياً لتتجدد أخرى أو تسرع بنا للهرم المحتوم.
مرت هذه الخاطرة وأنا أعاود قراءة مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم وقد وجدتها مصادفة على مكتب ابني هشام، تصفحتها سريعاً ونسيت سبب دخولي لمكتب الابن!
غبت بين أوراقها التي أودعتها في ذاكرتي قبل ما يزيد على عشرين سنة كما يظهر توقيع قراءتي على العنوان! غبت بين أوراقها التي أودعتها ذاكرتي. لا أدري لم خطر في بالي حينها مأزق ميشيلينيا الذي ظل متشبثاً بزمنه الوجداني، وهو زمن الحقيقة الذي نقبض فيه عليها ونؤمن بها، هذا الزمن وصفه عز الدين إسماعيل بالزمن السحري لأنه يقفز فوق الواقع، وسماه الزمن الروحي، لأنه ينجذب لتجربة الحب لكنه خارج شروط الزمن الموضوعي. وعجز (مرنوش) عن تبصرته بالفرق بين الزمنين، لكنه أفاق في صدمة رهيبة أمام واقع آلة الزمن الساحقة. كانت كلمات (بريسكا) التي ضاقت به وهو يقسرها على زمن لا وجود له إلا في نفسه المتشبثة بعاطفته الصادقة. كانت كلمات بريسكا الحد الفاصل لغيبوبته التي اجتاز بها شروط الزمن وإكراهات الفيزياء. قالت له: بيننا ثلاثمئة سنة. ذكرته أن ما يربطها ببريسكا التي يحبها هو الشبه فقط. كانت حفيدتها الرابعة أو الخامسة. هو لا يعني لها شيئاً لأنه من زمن غابر بعيد. حتى بريسكا الغابرة التي يعرفها هو لم تسكن استعاراتها، ولا حضرت في ذاكرتها هي إلا أمام إلحاحه.
قد يبدو لنا الزمن الوجداني ممتداً لأننا نمارس الحياة. ونتزود ببعض ما يدفئنا من محبة وولاء، لكن آلة الزمن الرهيبة تعصف بكل شيء. وموضوعيته الماضية لا تكاد تغادر صغيرة ولا كبيرة من اللحظات والأحلام والأماني إلا أحصتها واختزلتها في الفعل الناقص (كان)، ولا تعن لنا حينئذ إلا عبر حكايات بئيسة حين نستدعيها من ذاكرة أعيتها الأعباء أو الإعياء. وباتت تنتظر ظلالاً في لحظات خاطفة كلحظتي هذه التي التقيت فيها نفسي في زمن وجداني وارف أمام مسرح الحكيم، وها هي تتوقى به من هجير الزمن الفيزيائي الذي يعجل بالجفاف والتكلس.

ذو صلة