مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

حين يجتمع إبداع الفـن مع الوفاء

مؤسس الحركة التشكيلية الفنية التكعيبية الرسام والنحات الإسباني الفنان التشكيلي بابلو رويز بيكاسو (1881 - 1973)؛ تعرف على حلاق بسيط فيما بعد من بلده، أصبح حلاقه الخاص (يوجينيو آرياس)، سنة 1944 في فرنسا، ونشأت صداقة حميمة بينهما، وأصبحت هذه العلاقة الحميمية قائمة حتى وفاة الرسام بيكاسو، فالحلاق من أصل إسباني من جنسية بيكاسو نفسه، عاشا في المنفى 25 عاماً في باريس. كان الحلاق يرفض أن يتقاضى أجراً مقابل حلاقة شعر ولحية صديقه الفنان بيكاسو، فكان الرسّام يكافئه بأن يهديه بعض لوحاته الفنية التي يرسمها بنفسه ويوقع عليها، جمع الحلاق بهذه الطريقة 60 لوحة من لوحات صديقه بابلو بيكاسو، وبعد وفاة بيكاسو عندما ذاع صيته وشهرته ونجوميته الكبيرة، سارعت المتاحف العالمية الكبرى، تبحث عن لوحات الرسام بيكاسو في أي مكان، وعرضت على الحلاق مئات الدولارات لشراء هذه اللوحات النادرة للفنان الشهير، لكنه رفض رفضاً قاطعاً الإغراءات وبيعها للمشترين.
تبرع الحلاق بهذه اللوحات إلى قريته الإسبانية الصغيرة (بويشراغول دل لوزويا)، التي تقع شمال العاصمة مدريد، وهكذا ضحى بملايين الدولارات ثمن اللوحات من أجل هدفه ورسالته، لكي يرفع من شأن قريته ويجعل منها مقصداً سنوياً لملايين السواح من عشاق ومحبي أعمال بيكاسو، فساهم في خلق نشاط اقتصادي تسويقي وسياحي وترويجي كبير لهذه القرية الصغيرة التي لم تكن تعرف من قبل، بدلاً من أن يحقق ربحاً شخصياً له مقابل اللوحات الفنية الثمينة المرموقة، بإقامة متحف يحتوي هذه اللوحات النادرة ليكون مقصداً للسياح من جميع أنحاء العالم لقريته ومسقط رأسه.
توفي حلاق بيكاسو في العام 2008، وقد ودّعته بلدته الصغيرة بمسيرة كما يُودَّع الأبطال الشجعان والعباقرة بتوديع مهيب، ولم يزل متحفه الذي افتتح في العام 1985 والمسمى (متحف حلاق بيكاسو) مفتوحاً في قريته حتى الآن. وقد تحولت هذه القرية الإسبانية الصغيرة إلى معلم فني وأهم الأمكنة السياحية في إسبانيا، وتحوّل اسم الحلاق البسيط الى أشهر وأنبل حلاقي العالم بعدما كان منسيّاً لا أحد يعرفه كبقية زملائه الحلاقين، وحين توفي صاحبه الرسام بيكاسو لف جثمانه بشال إسباني أرسلته له أمه، وظل بجانب الجثمان طول الليل حتى الصباح.
وهكذا أصبح حلاق بيكاسو، مشهوراً كشهرة صديقه الرسام بيكاسو، وترك إرثاً واسماً كبيراً لقريته وله لا ينسى، فحين تجتمع موهبة الفن الإبداعية والمهنة الحرفية بذكاء وصدق ووفاء، تصنع مجداً لأصحابها، يتحدث عنها التاريخ ولا تنساهم الذاكرة.
ولعل أبلغ دلالة في هذه القصة هي عظمة الوفاء والإخلاص، وأهميتها ليس بالنسبة للأشخاص فقط، وإنما بالنسبة للأمم والأوطان، فهذه الغيرية والإيثار إن دلت على شيء، فإنما تدل على نبل وسمو أخلاق هذا الحلاق البسيط الإنسان، الذي كبر وذاع صيته رغم بساطته وصغر مهنته، بسبب ما تركه من بصمة إخلاص ووفاء إنسانية فريدة، جعلت منه نجماً واسماً خالداً، لا يقل شأناً عن صديقه ذلك الفنان الكبير بيكاسو، فحين قدم بيكاسو فناً عالمياً راقياً، ضرب هذا الحلاق البسيط، مثلاً يحتذى بالقيم الأخلاقية واحترام الصداقة والعلاقة الحميمية بين الأصدقاء الأوفياء النبلاء، الذين لا ينسون العلاقة والعشرة الحياتية الصادقة والنبيلة، بعيداً عن المصالح الشخصية الأنانية الضيقة، حيث تزاوجت ريشة فن بيكاسو العالمي ومقص حلاق صديقه البسيط، ليرسما أجمل لوحة وفاء تعبر عن النبل ومفهوم الصداقة الحقيقية، التي لا تشوبها شائبة، مثلما ترسخ ثقافة بشرية لا يمحوها الزمان والمكان، وتبقى راسخة تحكي قصة نجاح ملهمة وثنائية صداقة حقيقية ووفاء حتى الموت.

ذو صلة