مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عروض في مكة عام 1353هـ / 1934م محطات مجهولة من تاريخ المسرح السعودي

سبق أن ذكرت في أكثر من مناسبة أن تاريخ المسرح في المملكة العربية السعودية لا يزال كتاباً مفتوحاً، ومتاحاً للبحث والتنقيب بين العديد من المصادر، سواء المنشورة أو الشفاهية، والعمل على ذلك يحتاج التأني والصبر والمثابرة والتنقيب هنا وهناك وفي مختلف مناطق المملكة ومحافظاتها. واليوم نقف عند إحدى المحطات المهمة التي كانت مجهولة بالنسبة للباحثين والمهتمين في شأن تاريخ المسرح السعودي، حيث يعود تاريخها إلى عام 1353هـ / 1934م، حول تظاهرة فنية حدثت في مكة المكرمة، وذلك بمناسبة احتفال أهالي مكة بمناسبة عودة سمو ولي العهد المعظم (الملك سعود) منتصراً في حربه باليمن، حيث أقيمت احتفالات في مختلف أحياء مكة المكرمة لمدة ثلاثة أيام، تضمنت عروضاً تمثيلية ومسرحية، وأيضاً سينمائية. وورد تفصيل ذلك في تغطية صحفية قدمتها صحيفة صوت الحجاز، ونشرت في عددين متواليين هما العدد 121 الصادر في يوم الأحد 8 جمادى الأولى سنة 1353هـ الموافق 19 أغسطس 1934م، حيث استعرض في إيجاز تحت عنوان: (المهرجانات في حارات مكة): زيارة سموه لأحياء وحارات مكة وتشريفه لاحتفالات كل حارة وما قدم فيها من فقرات، وقد أوردت أسماء عدة حارات هي: جرول، وحارة الباب، والقشاشية، والشبيكة، والمسفلة، والنقا، وأجياد، والسليمانية، وسوق الليل، وشعب عامر.
وفي استعراض الخبر لما تم في حارة القشاشية ذكر:
واستقبله أهل القشاشية ومشى هؤلاء بين يديه متحمسين حتى بلغوا المكان الذي أعد لذلك، وكان قد رتب ترتيباً لطيفاً وزين في نظام جميل، وتقدم على الأثر الفتى حسين خزندار فألقى كلمة كأبدع ما قيل، وكانت الحارة قد أعدت لعبة تمثل صور ناس في رؤوس حيوانات مختلفة وطيور متنوعة يرقصون على طريقة تبعث على الضحك، وقد شهدها سموه فبانت أمارات السرور على محياه الكريم وماج الناس طربين لذلك، وغادر سموه المكان بعد أن أديرت كؤوس المرطبات، ودرجت سيارته بين هتاف حماسي إلى الحدود.
وتحت عنوان فرعي: (في السليمانية):
واستقبله أهالي السليمانية بحماس حتى شرف سموه مكانهم، وكانت الكهرباء تتألق فيه، والأعلام منصوبة عليه، فجلس سموه بين الحفاوة والتكريم، وتقدم لتحيته الشاب إبراهيم قدسي فأجاد، والفتى عباس مساوي فأحسن، وعرض الأهلون أمامه (لعبة الغزالة)، وهي تمثل رجلاً في ثياب نسوية شد على وسطه منطقة من الخشب ثبت فيها رأس تمثال غزالة يتحرك بحركة الممثل، ويحف بهذا الممثل عدد من الرجال بثياب نسوية مثله تزين رؤوسهم ضفائر الشعر الجميلة، يرقصون حوله والسيوف مشهرة بأيديهم على وقع الأناشيد الوطنية. وكان سموه يشرف على هذا المنظر والسرور طافح على محياه، وبعد دقائق غادر سموه المكان عاطفاً على الشامية عن طريق الفلق وأهل المحلة يتبعونه هاتفين له.
وفي الشامية:
واستقبله في حدود الشامية أهلها ودوى الهتاف، والتصفيق يملأ عنان السماء، واستمر موكبه بين هذا التصفيق وهذا الهتاف حتى انتهى المهرجان الذي أعدته الشامية له، وكان مهرجاناً قد أبدعت هندسته أيما إبداع، وزينت جدرانه وأرضه بأفخر ما يزين به، وتتألق الكهرباء في جوانبه، وعندما استقر بسموه المقام تقدم الفتى حامد هرساني بكلمة ترحيب لطيفة عن أهل الشامية، ثم عرضت على منظر سموه أيضاً لعبة جميلة تتمثل في آدميين لهم صورة القبائل الأفريقية يلعبون بارماحهم (هكذا كتبت والصحيح رماحهم) وعصيهم، يرقصون على وقع الأهازيج الوطنية في شكل بديع طرب له سموه، واهتز له الحاضرون ثملين بالسرور الذي تملك عواطفهم.
وفي الشامية غير هذه لعب مدهشة تمثل إحداها طيارة من صنع أهل المحلة تدلج مرتفعة عن الأرض بضعة أمتار، وأخرى تمثل زورقاً بخارياً له كل مميزات الزوارق الحقيقية، وأخرى تمثل تمساحاً يصارع سمكة، وغيرها تمثل آدمياً في صورة أسد أدهش الحاضرين بألعابه. وبالجملة فقد كانت مناظر خلابة تبعث بالسرور إلى القلب. وبعد أن أديرت كؤوس المرطبات غادر سموه المكان إلى القرارة.
في معية سموه:
وتذكر التغطية الصحفية لجولة سمو ولي العهد على الحارات؛ مرافقة الأمير فيصل بن عبدالعزيز نائب الملك في الحجاز آنذاك وعدد من أصحاب السمو الأمراء:
وجدير بنا ألا يفوتنا أن نذكر أنه كان في معية سمو ولي العهد في طوافه هذا بالحارات صاحب السمو الملكي الأمير فيصل وبعض أصحاب السمو الأمراء من آل البيت المالك، وقد لاحظنا أن أمارات السرور كانت بادية على محياهم طوال طوفتهم. نسأل الله لا يحرم البلاد منهم جميعاً وأن يمتعها على الدوام بحياتهم في ظل صاحب الجلالة ملك البلاد العربية السعودية المعظم.
وفي هذه التغطية الصحفية نكتشف ممارسة الأهالي لبعض الألعاب الدرامية والمسرحية، استخدمت فيها الدمى والأقنعة، وكذلك مثل فيها الرجال أدواراً نسائية وتزينوا بلباسهن، واستخدموا بعض أدوات الماكياج والتنكر مثل الضفائر.
أما في العدد رقم 122 الصادر في يوم الإثنين 16 جمادى الأولى عام 1353هـ الموافق 27 أغسطس 1934م، وكان بعنوان (آخر ليالي الزينة)؛ فإننا نقرأ كثيراً من التفاصيل عن ما تم تقديمه من فقرات وعروض مسرحية وسينمائية في بعض الحارات، تظهر مدى التنافس فيما بينها في تقديم الإبداع تعبيراً عن غبطتها بزيارة سمو ولي العهد المعظم. حيث يرد فيها:
ظل التنافس بين الحارات في إبداء شعورها نحو سمو ولي العهد بالغاً أشده، فكانت المهرجانات في كل حارة تغص بأروع أنواع السمر والأنس، وكان النظارة في كل مكان لا يملكون المرور في أية حارة حتى تتقاذفهم الأيدي مرحبة بهم، فينزلون أهلاً ويحلون سهلاً، كرم عام يشمل طوائف الناس على اختلاف طبقاتهم، ولا يفلت منه معتذر ولا معذور.
وعرضت بعض الحارات على مرأى من الناس مشاهد كثيرة فيها ضحك وهزل، ولا يخلو بعضها من حكمة وعبرة.
ففي سوق الليل كانت تعرض على الشاشة البيضاء مناظر سينمائية لطيفة تتمثل فيها أنواع الفروسية، وفي القشاشية كنت تشاهد فيما يشبه الفانوس السحري سباق له روعته وجماله، وفي أجياد كانت تمثل رواية البدوي الساذج يصلي بابنته وزوجته صلاة البارحة وأول البارحة، ويوم ضاع البعير. إنها من حق رواية تتمثل فيها حياة البدو في مكة قبل ظهور النبي (صلى الله عليه وسلم)، فتعطيك صورة واضحة عن ذلك الجهل الذي كان ضارباً أطنابه بين هاتيك القبائل، ولا تملك أن تقدس في سيد الخلق فضله في إرشادها وتنوير أذهانها، كانت صلاة يجمع البدوي في الركعة الواحدة منها بين ركوعين وأكثر وسبع سجدات وأقل، حسب ما توتيه قوته وتطاوعه ركبتاه. كانت هي بعينها الصلاة التي يصفها ابن جبير في رحلته عن صلاة الجاهلية، ولقد يلتفت البدوي في أثنائها إلى امرأته فيوصيها بحاجة عنت في نفسه وإلى ابنته فيسألها عن مسألة عرضت له أو إلى كلبه فيأمره وينهاه أو إلى صديق له رآه عن بعد فيجري خلفه يستفسره عن حال المال والعيال ومن ثم يعود إلى مصلاه يوالي الركوع والسجود بلا حصر ولا عد.
ومثلت حارة الشامية مشهداً من الصراع الرياضي، فكنت ترى السلاح الأبيض يلمع في أيدي المتصارعين وهم يموجون بين كر وفر في صفوف بعضها تجاه بعض، أشياء تبعث في النفس الحماسة.
ومثلت المسفلة رواية بديعة لها عبرتها في الحياة، وهي تتلخص في ملك هندي يسمونه (خدى دوس) تنازل كرماً عن ملكه لأحد جوّابي الآفاق من الدراويش، واستبدل بثياب الملك وصولجانه ثياب الدرويش المرقعة وكشكوله، وهام بأهله وولده يسوح في الأرض زاهداً في الحياة، وعلى شاطئ من شواطئ بنغالي بعد بضع سنوات في غابة من غابات الجوز في تلك الأرض -والغابة بأشجارها ووحوشها يشاهدها النظارة في المسرح- هبط إليهم تاجر من باخرة كان يشير إليها في عرض البحر وهو يستعطف صاحب الجلالة الدرويش لينعم عليه بامرأته لتولِّد له زوجته وتمرضها في الباخرة ثم يعيدها إليه، وتأبى شهامة الملك الدرويش أن يمنعها عنه، فيأمره بأخذها فيختفي بها وعلى كتفها ولدها الصغير.
وتمضي الأيام فلا تعود فيشتد حزنه، وإنه لفي حزنه على زوجته وولديه فيأمر ولده الأخير والباقي أن يتحسس أمه على قرب من خور البحر، فيمضي الولد إلى حيث يتلقفه تمساح، فيغيب به في غياهب البحر، ويشاهد النظارة بعد ذلك مشهداً أروع ما يكون حزناً وأسى، إذ تتمثل أمامهم العفة تصارعها الدناءة وتقيم عليها حرباً عواناً. ويشاهدون امرأة الدرويش الملك وقد وقفت في استحياء وخفر تتمنع عما يراودها فيه التاجر وتتغالى في تمنعها فيأمر بابنها الصغير فيشد خدامه على خناقه ليجهزوا عليه فتهجم عليه لتفديه فيساومها التاجر في عفتها فترضى ثم ترفض فيشد عليه فترضى ثم ترفض ويشد عليه فترضى وهكذا دواليك حتى تصيبها العناية، وقد بلغت الباخرة أحد الشواطئ فتهرب بابنها ثم تختفي.
وفي مجلس من مجالس الملك الذي تسلم الملك من صاحبه، وبعد مرور بضع سنوات؛ يشاهد النظارة أغبر أشعث يدخل في مرقعيته على الملك يقص قصته وعناد الدهر له في ولده وزوجته من يوم أن غادر ملكه متنازلاً عنه، فيرثي الملك له ويعود بدوره ويعيد الملك له، وينسل من مرقعيته كما كان قبلاً عائداً من حيث أتى، ويجلس الملك في عرشه القديم مبلبل الخاطر، وإنه لكذلك إذ بامرأة تدخل مولولة تشكو عليه تاجراً خدعها حتى جرها إلى باخرته، وهناك عذب ابنها لتسخو له بنفسها فهربت منه وهي تطالب الآن بالقصاص منه. ويجلس قاضي الملك في لحيته البيضاء المرسلة إلى قبل سرته على مقربة من الملك بحرق الإرم غيضاً من دناءة التاجر، لكنك تلمح في فضيلته بعض حركات دالة على مقدار تشوفه لهذا الجمال مما يدل على أنه يخفي وراء مظهره هذا نفساً شهوانياً بيد أنك تعجب لنزاهته عندما يحيل الملك أمر تقدير الجزاء إليه فيعمد إلى كاتبه يستنطقه ثم يعلن الحكم بعشر سنوات بصوت يسمعه الجاني الموثوق في قفص الاتهام فيلوح له بعشرة آلاف روبية فيشعر القاضي أن الأمر لم يفتضح لكن نزاهته تأبى عليه فيحتدم ويغتاظ وينهال تقريعاً عليه ثم يلتوي بحركة جنونية ويصيح بالناس في غضب كل قاض في النار إلا من التقى، وينثني في غضبه هذا إلى كاتبه فيستنطقه حكماً آخر ثم يعلنه خمسة عشر عاماً، فتعجب إلى نزاهته بجانب شهوانيته، وتؤمن من ثم أن النفس الإنسانية مسرحاً لكثير من الغرائز المتنافرة المتضادة.
ويجيء الفصل الأخير وإذا بالملك يعرف في هذه المرأة زوجته فيعانقها، ويدخل على إثره أحد مروضي الوحوش وفي يده فتى يقدمه إلى الملك قائلاً إنه أنقذه من مخلب حيوان كاسر، ثم يدخل صياد بحري يجر خلفه شاباً قائلاً إنه وجده على أحد الشواطئ يلتطم بين الأمواج، وبهذا يجمع شمل المشتتين وتقر أعين الصابرين، وتنتهي الرواية. وهي على العموم عبرة مفيدة وضرب من اللهو النافع، سر الحاضرون وشهدوا لممثليها بالبراعة والجودة وللقائمين عليها بحسن الذوق وكمال الاستعدادات.
وبالجملة فقد شاهدت مكة -كما رأيت- أنواعاً من ضروب السرور البريء يطول سردها، وأبدت كل حارة غير هذه صنوفاً من الألعاب الجميلة، ما لا تأتي عليه هذه العجالة. أدام الله عليها سعادتها بأفراد الأسرة الكرام من آل البيت المالك في ظل جلالة الملك المعظم.
وتظهر لنا هذه التغطية وصفاً تفصيلياً للعرض المسرحي الذي تم في حي المسفلة، وهو عرض مسرحي متكامل الأركان اجتمع فيه الممثلون والجمهور والمسرح الذي تعرض عليه المسرحية، وذكر في أكثر من موضع أثناء استعراضه لأحداث المسرحية أنها تمثل أمامهم بكامل شخصياتها، حيث يذكر مثلاً: (وفي أجياد كانت تمثل رواية البدوي الساذج).
أو: (ومثلت المسفلة رواية بديعة)
أو في وصفه لديكور المنظر المسرحي: (والغابة بأشجارها ووحوشها يشاهدها النظارة في المسرح)
أو في وصف الموقف المسرحي على خشبة المسرح: و(يشاهد النظارة بعد ذلك مشهداً أروع ما يكون حزناً وأسى).
استخدامه لعبارة يشاهد النظارة عدة مرات يدلل على أن العرض المسرحي عرضاً حياً، لكننا لم نتبين أن دور المرأة مثلته امرأة أم رجل، حيث لم يذكر ذلك في التغطية الصحفية، كما ذكر في لعبة الغزالة التي قدمت في حفل حارة السليمانية.
أيضاً لم يحدد لنا عنواناً للمسرحية التي قدمت، إلا أنه ذكر في أول الحديث عنها أنها تتلخص في ملك بنغالي اسمه (خدى دوس).
ومن خلال العرض لأحداث المسرحية يتبين لنا أنها مأساة درامية تعتمد على إلهاب المشاعر من خلال تركيزها على الصراع بين خيارات الخير والشر، والتناقض بين الشخصيات والدوافع..
ورد في العرض عدد من الكلمات المسرحية المتخصصة والمتداولة في أوساط المسرح في تلك الفترة، وهذا يعطينا إشارة إلى أن كاتب أو معد هذه التغطية الصحفية (وإن لم يذكر اسمه) على إلمام بالمسرح واطلاع عليه سواء من خلال قراءته أو مشاهداته. ومن هذه الكلمات: المسرح، رواية، مشهد، النظارة، الفصل الأخير، ممثلين.
ويختم بعبارة مهمة تلخص ردة فعل الجمهور وانطباعهم عن العرض الذي شاهدوه: (وتنتهي الرواية وهي على العموم عبرة مفيدة وضرب من اللهو النافع سر الحاضرون).
للأسف لم ترد في ثنايا هذه التغطية الصحفية (وهي وثيقة تاريخية) أسماء الممثلين أو اسم مؤلف ومخرج هذه المسرحية أو المشاركين سوى أنهم أبناء حي المسفلة في مكة المكرمة.
ختاماً هذه المادة التاريخية التي استعرضناها تضيف لنا معلومات جديدة عن بدايات مجهولة من الفعل المسرحي في المملكة العربية السعودية، وعن عروض مسرحية وأدائية قدمت للجماهير خارج نطاق المدرسة كما هو معتاد في تلك الفترة، وهي تعبر عن جهود فنية مسرحية أهلية تسبق محاولة الشيخ أحمد السباعي تأسيس مسرح أهلي بحوالي ثلاثين عاماً. وقد نكتشف في مقبل الأيام عن عروض أخرى وجهود مسرحية مجهولة.

ذو صلة