مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

سكــن

حالة من الرثاء للذات تنتاب غيداء وهي تنظر له ممدداً على سريره بغرفة المستشفى، بعد عودتها من المنزل، محضرة له بعض الملابس داخل حقيبة جلدية، خوفها من فقده أعاد لذاكرتها سنوات مضت، حينما طردتها المرأة البدينة صاحبة العقار القديم المتهالك الذي كانت تستأجر إحدى غرف سطوحه، كان صوت احتكاك (دستة الغوايش) التي تمتلئ بها ذراعها اليمنى، يصدر طنيناً مزعجاً كأجراس تنذر إنذاراً برعب وشيك.
- فاضلك تلات أيام يا الدلعدي.
شوفي لك حتة تانية.
يتكرر معها الإحساس بعدم الأمان واللا مأوى من جديد، بعد تصديها لتحرشات ابن صاحبة العقار المتكررة بها، فكان مصيرها الطرد من الغرفة بإيعاز من الابن المدلل انتقاماً منها، لتجد نفسها في الشارع مرة ثانية.
طال سيرها في الشارع بحثاً عن مكان جديد، بعد أن هدها الجوع والتعب، اشترت ساندويتش من عربة فول بالشارع وجلست على جانب الرصيف، فتحت قطعة الجريدة الملفوف بها طعامها، كان مكتوباً بالورقة إعلان توظيف (مطلوب سكرتيرة، حسنة المظهر، السن لا يقل عن ثلاثين عاماً ولا يزيد عن أربعين).
بضع كلمات كانت كافية لتستقرئ المخبوء خلفها، كاتب في منتصف الخمسينات وحيد، مشهور بنزواته، فتاة حسنة المظهر.
لم يكن بد من المخاطرة، ولم يكن متوافراً أمامها خيار آخر، الشارع أو فيلا الكاتب المشهور.
خرجت من غرفتها للبقالة المجاورة وهي تضمر في قرارة نفسها ألا تسمح لرجل آخر أن يحتل مساحة من قلبها.
طلبت الرقم الموجود بالإعلان.
- صباح الخير. الأستاذ..
- أفندم..
- أتصل بخصوص الإعلان..
إذا كانت الوظيفة شاغرة..
حملت حقيبتها وأعطت سائق التاكسي العنوان، فيلا قديمة ذات طراز معماري كلاسيكي، يوحي بالفخامة، تحيطها حديقة واسعة، رنت جرس باب حديدي ضخم تتخلله ورود من النحاس، مشت في ممر طوله عشرون متراً.
- صباح الخير يا أفندم أنا مديرة منزلك..
ودخلت مسرعة كمن يعتاد المكان دون أن يسمح لها بالدخول، وقف مكانه لبرهة رافعاً حاجبيه وفاتحاً فمه فيما يشبه البلاهة، بادرته وهي تنفض بعض الغبار من على (فوتيه) بالقرب منها:
- حضرتك هـتفضل واقف عند الباب كتير؟
تتحسس بإبهامها وأوسط يدها ذرات غبار باستياء:
- كل ده هيتغير بوجودي..
أغلق الباب وهي مازالت واقفة تستعرض بعض اللوحات على الحائط استوقفتها لوحة لجسد عار مضطجع على أريكة، بادرته:
- فين المطبخ؟ محتاجة كوب نسكافيه..
أشار لها وجلس على (الفوتيه) أسفل الصورة التي لفتت انتباهها، عادت بكوبين من النسكافيه، جلست بجواره.
البديهي في مثل هذا الموقف أن يطردها، أو يخبرها أن الوظيفة شغلت، لكن لا يدري سر صمته وما سر سيطرتها عليه من أول وهلة.
حادث نفسه: (لا بأس أعجبتني اللعبة لأسمح لها بالبقاء ومن يدري).
أشار بيده لإحدى الغرف، دخلتها وغيرت ملابسها، خرجت ليبدأ حديث تعارف بينهما، بدأه هو:
- أستيقظُ في التاسعة صباحاً، أشرب فنجاناً من القهوة، أدخن خمس سيجارات وأنا أستمع لعبدالوهاب، بعدها أبدأ الكتابة للثانية ظهراً، موعد الغداء، تعقبه قيلولة، ثم أتمشى في الحديقة لمدة ساعة ثم أعود، لا أحب أن يزعجني أحد طوال تلك الفترة لا تليفونات ولا زيارات.
ضحكت، وفي سرها همست لنفسها وبالطبع لم يخبرني عن طقوسه الثانية، عندما يرغب في لقاء إحداهن، في نهاية الأسبوع كما هو شائع عنه.
- Ok Master of Time
أزعجته نظرة عدم الاهتمام، فسألها عن نفسها، بنفس عدم الاهتمام قالت:
- أنا مديرة منزلك تذكر لا داعي لأن نتعارف أو أن تعرف تفاصيل حياتي..
ساد صمت أعقبه دخول كل منهما لغرفته. ظل يؤنب نفسه (كيف سمح لها بالبقاء)؟ حتى غلبه النوم.
استيقظت قبله، صنعت لنفسها فنجان قهوة، وجلست تحتسيه على مهل، حدث تغيير كبير منذ قدومها للفيلا، اختفت ذرات الغبار، أصبح حريصاً على تناول ثلاث وجبات في اليوم، ترك اختيار نوع الطعام لذائقتها، وبالليل بعد الانتهاء من كتابته يخرج من غرفة المكتب، يجلسان معاً يتبادلان الأحاديث عن الكتب والسينما والفن والموسيقى. وتدريجياً تناسى أمر نزواته الأسبوعية وأصبح شاغله الشاغل استمالتها، وما بين شد وجذب مرت السنوات ولا يعرف لعنادها سبباً ولا يجد لصمودها تفسيراً.

(2)
دخل ممرضان الغرفة ليساعداه في ارتداء ملابسه، تفحصت قائمة الأدوية التي كتبها الطبيب، جلست على سريره أشار لها أن تنام بجانبه فعلت، كانت تجربة المرض، فرصة سمحت بمساحة من القرب بينهما أكثر، لم تتركه وحيداً، تراقبه من خلف زجاج العزل، كانت تمكث بالساعات داخل جدران المستشفى، كل من يراها كان يدعو لزوجها بالشفاء كما كانوا يظنون.
مرت عدة أيام على خروجه من غرفة العزل، تدهورت حالته الصحية أكثر فأكثر، قضى عليه الفيروس اللعين، لم تتحسن رئته، فأسلم روحه، تاركاً ورقة داخل كتاب كان يعمل على تأليفه.
(تنازل)
أقر أنا.......
وأنا في كامل قواي العقلية أني تنازلت عن فيلتي رقم (..) شارع (....)
إلى غيداء جورج سمير
المقر بما فيه المتنازل إليه
سمير حنا يونان غيداء جورج سمير

ذو صلة