مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

طابور المرأة الصامتة

توافدوا على بسطتها المتواضعة: شاي وقهوة وأكواب وأوراق نعناع وحبق، هذا كل ما في الأمر، طابور من الرجال ينتظرون الدور متباعدين منعاً للحرج عند الدفع.
كانت رياح فبراير الباردة تهبّ قوية منذ أيام، وتكاد تعصف بالأشياء المتواضعة أمام البائعة الخفيضة الصوت، لم يسأل أحد عن السعر والظروف القاسية، لم.. ولم.
الأول دفع أكثر مما توقعت، وغادر دون أخذ الشاي، الثاني دفع خمسة ريالات وطلب الكوبَ خالياً، أخذه ومضى.
تثبّت الثالثُ من مكان وقوفه قريباً.. و دعا لها بالرزق:
- فأنتِ تحافظين على نقابك في هذا اليوم العاصف.
همست شاكرة بصوت خفيض، ورأت ثلاثة ريالات معدن يضعها في راحة يدها التي يغطيها قفّاز أسود.
وقف الرابع بتثاقل أمامها، وكمن يفتح تحقيقاً عن نوع الشاي: (تلقيمة أو عادي، والحبق من المدينة أو من المزارع القريبة..؟) انتهره من ورائه صوت حاد:
- توكل على الله.. لم يبق إلا أن تسألها: شبكة ولا كاش، يا أخي استح!
فوجئ بالصوت يوبخه، فمضى يعوي، وتتابعت الحركة منسابة وكأنما هناك روح تنتظم القادمين إلى المكان: البسطة التي لم تسمها أم محمد بأي اسم، فاللوحات مكلفة هذه الأيام.
تأخذ الريالات وتخبئها سريعاً وراء اللباس الطويل المتدلي من رأسها إلى وسط خصرها، لا تتحرك كثيراً فالخير طيب هذا اليوم.
اقترب التالي في الدور، ربما يكون الخامس أو السادس في زبائن العصر، بحركة مفاجئة، رفع حافظة الشاي، وحين هزّها وجدها فارغة، لكن الزبائن لا زالوا يأتون و(البيع) مستمر.
بسطة شاي
وقف أمامها، رأت الحذاء الأنيق، رفعت رأسها، وإذا قامة رجل يعلن: البيع هنا ممنوع!
***
حين لم ترد، يواصل مبعداً نظراته عنها:
الأمر ليس فوضى، هل كلّ مَن وجدَتْ رصيفاً جميلاً وتساهُلاً من التفتيش تبسط وتبيع وتشوّه المنظر البصري؟
أراد صغيرُها ذو الأعوام السبعة أن يقف لأمر ما، فشدّتْ يده ليبقى جالساً بجوارها.
استمر واقفاً يذكرُ الإجراءات، لكنها دُهشت، في صمت، حين سمعتْهُ ينكر حاجة الناس للشاي، ويتّهمها بتعطيل مصالح العابرين، ولما أراد أن يرفع صوته قليلاً كصاحب منع، خانه الصوت.. فواصل:
عندك رخصة؟
***
استأجري دكاناً مرخّصاً وبيعي فيه ما تشائين يا خالة!
وبصوت عاد إلى الحياد:
بكم الشاي طيب؟
-بريال.
- ليس صحيحاً، سمعت أنكم تبيعون بأكثر وهذه مخالفة!
***
لم يحظَ بردٍّ من كومة الصمت، ظلت توزع نظراتها بينه وبين ترامس الشاي والأكواب والحبق الذابل من تأثير الشمس.. عسى أن ينصرف.
أخرجَ من جيبه 5 ريالات، دفعها ومضى.
- لحظة خذْ الشاي.
- لا أحتاجه.. شكراً.
قال الصغير:
- أمي.. لماذا لم يأخذ الشاي؟
- ربّما تناوله في بيته الأنيق، قبل أن يأتي إلى هنا.. أو ربّما سيذهب إلى محلّ راقٍ يبيع له كوب الشاي بـ13 ريالاً.
- والتفتيش؟
- ما ذا به يا ولد؟ مهنة شريفة أيضاً!

ذو صلة