مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عطر الأب

المرة الأولى التي لم أشتم فيها رائحة أبي العطرة، كانت حين قفلت وإياه من تلك الرحلة الغريبة إلى المنطقة الساحلية القريبة. أنا الذي لم يصطحبني أبي معه إلا لماماً، كنت رفيقه في تلك الرحلة، تبعاً لإلحاح أمي ثمَّ أخذه ذلك الإلحاح بمحمل الجد. لم يكن يدري ما يفعل حين اقتربنا راجلين من البيت منتصف تلك الليلة، ولم يكن ينوي أن يجيب عن أسئلتي المتعلقة بسبب زيارة تلك المنطقة ومقابلة أولئك الناس. كنت قد سألتُهُ أثناء ذهابنا: هل هناك ما هو ممتع؟ أو مفيد؟ أو مسلٍّ؟ اكتفى بالصمت، وذلك ديدنه. لم يكن يحب أن يتحدث كثيراً، أن يجيب بالأحرى، كلنا كنا نعرف ذلك. ذاعت رائحة الورد منه قبل أن تتلاشى روائحه كلها حين اقترب مني يعانقني ويقبّل رأسي. يفوح أبي ورداً كلما كان يشعر بالإحباط والتوتر، أدركُ ذلك.
التقينا في الساحل بشيوخ، لا أذكر أني رأيت شاباً أو فتاة أو أطفالاً، عدا صبي واحد رمقته وهو يلقي بشباكه في البحر ليصطاد. نجتمع بالشيوخ، يتبادلون الحديث مع أبي. لم يأبهوا بي كثيراً. كان الكلام مقتضباً، يجري خلف معنى لا أعرفه. يمسح أبي على رأسي بين ذلك ويقول: هذا القعدة، ألمحهم وأملحهم. ثم أفضى إليهم بحكاية تأخري عن المدرسة، تراجعي عن الاحتكاك بأقراني، انعزالي. يردون عليه بقصص أخرى. يهمهم اثنان منهم بمصطلحات غريبة، ومقصودة، يشيران بطريقة وأخرى إلى الفتى، الصياد.
كان لأبي رائحة عطرة، أبداً لا تخبو، لا تهدأ، تنحصر أحياناً، لكنها تضوع وتزكو ما إن يستيقظ كل صباح. يبتسم في وجه أمي، يقبّل أخواتي، أحفاده. يشعر بالرضا. يحضنا على الحيوية، مناجزة الحياة بالرغبة لا بالرهبة. كان حتى حينما يقلق على غيبة أحدنا أو مستقبله يتقاطر عطراً.
تحدثنا أمي بأن تلك المعجزة التي يعتقد البعض بأنها خرافة، موروثةٌ من جدي التاسع أو السابع، حسب رواية جدتي، وأنه كان طبيباً حاذقاً، كوفئ في أحد نجاحاته العلاجية بقنينة عطرية فخمة من أحد السلاطين، يشاع بأن مادتها العطرية تعود لخلطة خاصة لكليوباترا. ثم إن السلطان لما شُفي ندم على ذلك وأراد استرجاعها، فما كان من جدي إلا أن أخفاها لما علم بما فيها، وأورث مكانها لابنه من بعده، مؤثراً ذلك على حياته، فتنوقلت في نسله حتى أبي، لكنها لا تكون إلا في واحد تتفاعل معه تلك المادة العطرية، لذلك ليس لعمي فيها نصيب، كما أن إخوتي لم يسلِّموا بذلك تمام التسليم، خاصة بعد أن أخرجت لنا أمي ذات ليلةٍ قارورةً صدئة، زنخة، متآكلة، كأنها ملقاةٌ منذ التاريخ تحت الشمس. شممناها فلم تتلقفنا رائحة إلا من بعيد، كأننا في فم بئر. كانت بين أن تكون حسنة وعطنة تومض بزيت الزيتون، وتنطفئ على شذرات من بقايا الياسمين.
في المرة الأخرى التي لم أجد فيها ريح أبي، كان نائماً في صندوق السيارة. كلنا لم نجدها في تلك اللحظة، إلى الآن. سافر أبي في ذلك الصندوق بين الكثبان الرملية والشعاب والأودية إلى جهة غير معلومة. كان الخطر يحدق بنا، يتحدث إخوتي عن ذلك. أصبحنا وحيدين ونحن عصبة. فكرتُ في أنه ربما يذهب إلى الساحل مرةً أخرى، سيفصح الآن عما يريد بكل تأكيد، لكنه لم يأخذني معه هذه المرة، رافقه عمي وأخي الأكبر.
ظل أبي مسافراً دائباً فيما بعد. حتى أني لم أعد أسأل أمي عن ذلك السفر، تلك الغيبة التي لا تنتهي. هي أيضاً لم تعد تشغلها القنينة، قنينة عطر أبي، منذ أن انبثقت رائحة الخزامى بيني وبينها على مسافة ذراع مني. كنت حينها قلقاً، أفكر في اللحظة التي أسترجع فيها أبي مرة أخرى.

ذو صلة