مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

دلالية المفهوم ومسار التطور

إن المرء بطبيعة تكوينه وبفطرته وميوله، يحرص على أن يكون له ما يمتلكه، وما يدخل في حيِّز حدوده وامتداد وجوده وشخصيته، وليس هذا بالأمر الغريب، فرغبة الامتلاك سواء كانت مادية أو معنوية تمنح للمرء وجوداً آخر، وتكسبه أماناً مضاعفاً، وتجعله يشعر بامتداده من خلال ما يملك، لكأن الأمر أشبه بذات أخرى مادية أو معنوية هي ظل للذات الشخصية وامتداد لها وتثمين لقيمتها المادية والمعنوية، ولكأن الفرد بانتماء هذه الممتلكات المادية والمعنوية لحدِّ وجوده يبني عالمه الخاص الذي هو جزء من تكوينه وكدِّه وجهده وبراءة أفكاره وابتكاراته، ويمنح نفسه حق الانتفاع بما جاد به فكره أو نجم عنه كدُّه وجهده، كما يخول له هذا الامتلاك إمكانية تفويت هذا الحق وما ينجم عنه من منفعة لمن يعقبه، كما يخوِّل له الاطمئنان لما يمكن أن يحفظ ذكره بعد فنائه، وما يهمنا في هذا المقال هو مسألة حد الملكية الفكرية بوصفها ملكية معنوية، وتتبع أشكال ضمانها وحفظها، بوصفها حقّاً من حقوق الإنسان لا ينازعه فيه أحد، إن طبيعتها المعنوية، وصيغتها القيمية، تجعل منها شكلاً من أشكال مقاومة الفناء والموت، بوصفها دليل وجود وخلود لصاحبها بعد غيابه، وبذلك تصبح حمايتها وضمانها ضرورة تستدعي وجود قوانين وشرائع تحددها وتحميها، (لقد جاءت الشرائع ووضعت القوانين لحماية هذا الحق، حق الملكية، وقصر الانتفاع به على المالك أو خاصته، ومن تحدثه نفسه بالاعتداء على هذا الحق، أو محاولة سلبه من صاحبه، فإن في القوانين والشرائع ما يرد الحق إلى ذويه، ويأخذ المعتدين على هذا الحق بالعقاب، حتى يكونوا عبرة لغيرهم).
إن القوانين والشرائع حرصت منذ القديم على حماية هذا الحق، وأدركت ما يمثله الجهد الفكري والابتكار العقلي لصاحبه، إن كينونته الرمزية التي لا يسمح باستلابها، والتي يشعر بوجوده من خلالها، فهي قد تفوق الممتلكات المادية من حيث قيمتها ورمزيتها ووقعها على نفس صاحبها، ويصبح الاعتداء عليها اعتداء مباشراً على الشخص نفسه، ومن هذا المدخل يمكن تحديد ماهية الملكية الفكرية في علاقتها بمالكها بكونها (سلطة مباشرة يعطيها القانون للشخص على كافة منتجات عقله وتفكيره، وتمنحه مكنة الاستئثار والانتفاع بما تدر عليه هذه الأفكار من مردود مالي للمدة المحددة قانوناً ودون منازعة أو اعتراض من أحد).
هذه السلطة التي يتمتع بها المالك بموجب القانون تتخذ منحيين أحدها معنوي رمزي يتيح لصاحب الحق الفكري الاستئثار بمنجزه، بوصفه منتوجاً متفرِّداً خاصاً به دون سواه، ومعبراً عن تمثُّلاته وتصوراته وطبيعة رؤيته للكون والإنسان والوجود، ومن ثمَّة منسوب بالضرورة إلى شخصه، والثاني مادي مرتبط بمجمل ما قد يُدرُّه هذا المنتوج الفكري من أرباح تعود عليه بالنفع، وبذلك تتقاطع المنفعة المعنوية بالمنفعة المادية في كل ما يتعلق بالملكية الفكرية، ويصبح قانون حمايتها حقاً مشروعاً لصاحب المنتوج الفكري.
وإذا تتبعنا تطور حقوق الملكية الفردية عبر التاريخ، نجد أن فكرة الحماية كانت موجودة منذ القديم، وكشفت عن وعي عميق بقيمة المنجز الفكري الناجم عن جهد عقلي خاص بصاحبه، وعن تقدير لمن دأب على إخراج هذه الأفكار من مجال الذهن والمُخيلة إلى مجال الحيِّز المادي الورقي الذي يصل للجميع، غير أن جماعيته بعد الانتشار لا تعني انتهاك حق من أبدعه وأخرجه إلى حيِّز الوجود، وإذا كانت قواعد هذه الحماية لم تتبلور في العصور القديمة أو الوسطى بسبب عدم انتشار الأعمال آنذاك بوتيرة تستدعي إمكانية الحصول السهل عليها، فقد اتخذت الأمور في عصور لاحقة طابعاً جدياً سعى إلى حفظ المنتوج الفكري، وحفظ أحقية أصحابه بانتسابه إليهم بوصفه جزءاً من كينونتهم وتصوراتهم، وامتداداً لشخصيتهم، وتقديراً لجهدهم العقلي، فقد (كان اليونان يودعون مؤلفاتهم في المكتبة الوطنية للاطلاع عليها من الناس داخل المكتبة فقط، وهذا ما يعرف حديثاً بالإيداع القانوني كوسيلة للحماية القانونية للملكية الفكرية).
هذا الحرص على جعل المنتوج الفكري محاطاً بالعناية والحفظ يُنبئ عن وعي حقيقي بأهميته وقيمته وضرورة انتسابه لصاحبه بعيداً عن كل احتمالات الأخذ العشوائي دون وجه حق، كما يكشف عن مدى علو القيمة الرمزية لدى الإنسان منذ غابر الأزمان لما فيها من حفظ لكينونته وشخصيته.
وإذا رجعنا إلى الثقافة العربية، نجد أن قيمة المنتوج الفكري والأدبي عالية المقام، إذ لا يخفى على الباحث المكانة العالية التي يتبوؤها الأديب والشاعر عند العرب، باعتباره لسان حال القبيلة، والناطق الرسمي بأمجادها، لذلك كانوا يقيمون الولائم والاحتفالات كلما وُلد فيهم شاعر، وطبيعي أن يحفظوا له حقه الإبداعي والأدبي، ويعتبرون المساس بهذا الحق أمراً مذموماً غير مشروع، وبذلك يصبح حفظ حق الأديب الفكري والإبداعي جزءاً من حقِّ وجوده، وها هو طرفة بن العبد يعتبر الإغارة على الأشعار شرّاً سافراً، يقول:
ولا أغير على الأشعار أسرقها
عنها غنيت وشرُّ الناس من سرقا
أما حديثاً فقد أصبح نظام الملكية الفكرية من أولويات القوانين والبنود التي تنظم حياة الناس، فليس الأمر مقصوراً على تشريعات تحفظ ملكيات مادية ظاهرة للعيان، وإنما هي تشريعات وقوانين خاصة تنص على حفظ حق المفكر والأديب، وعلى ضمان شخصية مُنتَجه، وعدم قابليته للانتهاك المُشاع دون وازع قانوني، بل وأصبحت المطالبة باسترداد الحق حال انتهاكه أمراً ضرورياً تحفظه القوانين، ويرجع الاهتمام المُضاعَف بالملكية الفكرية إلى النشاط الواسع الذي عرفته الحركة الفكرية والأدبية وإلى التطور الكمِّي الهائل الذي عرفته الساحة الثقافية ولاسيما مع ازدهار حركة الطباعة والنشر، وتراكم المُصنَّفات والكتب، وزادت الثورة التكنولوجية والرقمية من وتيرة هذا الانتشار، ومن احتمالات تعرض المُنتَج للانتهاك مع سهولة النسخ وعدم تكلفته، وحيِّزه الزمني السريع الذي لا يُكلف المُنتهِك أدنى ثمن وزمن وجهد، وبذلك ضاعفت قوانين الملكية الفكرية من اشتغالها على صيانة هذا الحق المعنوي والرمزي الذي أصبح مُعرَّضاً للضياع، (فالملكية الفكرية تدخل في نطاق الملكية المعنوية على اعتبار أنها تقع دائماً على نتاج الذهن والعقل والإبداع ولا خلاف على ضرورة حماية ما ينتجه العقل البشري).
هكذا يصبح تسطير القوانين للحفاظ على الحق المعنوي حرصاً مُضاعفاً، وضرورة تستدعيها التطورات المتسارعة التي يعرفها العالم في ظل الثورة التكنولوجية والرقمية، وفي ظل تزايد وثيرة الانتشار وتقلص زمنه. لقد تزايد هذا الاهتمام بقوانين الملكية الفكرية منذ (منتصف القرن الثامن عشر، حيث وجدت بعض الاتفاقيات الدولية الثنائية التي كانت قاصرة في حماية عناصر حق المؤلف. ولهذا تم إبرام اتفاقية برن في 9-9-1986 لحماية الأعمال أو المصنفات الأدبية والفنية للمؤلف، ونصت المادة الأولى من الاتفاقية بأنه تشكل الدول التي تسري عليها هذه الاتفاقية اتحاداً (سمي اتحاد برن) لحماية حقوق المؤلف على المصنفات الأدبية والفنية. وقد تم مراجعة هذه الاتفاقية عدة مرات لمواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة في مجال وسائط نقل ونسخ أعمال المؤلف).
وقد ضمنت هذه الاتفاقية الحقوق المعنوية والحقوق المادية للمنتَج الفكري، كما طرحت مجموعة من المعايير التي بموجبها تتحدد قواعد الحماية.
لا شك إذن أن الاهتمام المتزايد بتقنين نظام الملكية الفردية في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، يكشف عن القيمة الرمزية العالية للمنجز الفكري والأدبي، وعن العناية البالغة بمن أخرجه إلى دائرة الضوء، ويأتي هذا في إطار إعادة الاعتبار للذات الفردية والجماعية وللبُنى القيمية والأخلاقية التي تشكل هوية الأمم وتحفظ إنسانيتها، فالذات المبدعة والمفكرة تشعر بكينونتها وكرامتها حينما يُحفظ لها هذا الحق، كما تتمتع بمردوده المادي والنفعي بوصفه جهداً ذاتياً أفنت فيه زمنها وطاقتها الذهنية، وغير بعيد عن هذه المنفعة الفردية، ينتفع المجتمع من خلال تحفيز طاقات أخرى على البذل والعطاء بضمان الحماية التي تشكلها هذه القوانين، هذا فضلاً عن تفعيل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية التي تذم الاعتداء على حقوق الغير، وتدعو مقابل ذلك إلى المنافسة الخلاَّقة التي من شأنها الدفع بعجلة التنمية الفكرية والثقافية إلى الأمام، والحفاظ على الرأسمال اللامادي الذي يُشكل هوية الأمة ووجودها.

ذو صلة