مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الملكية الفكرية في المغرب.. بين تجربة تشريعية وأخرى شخصية

مضى قرن كامل على انخراط المغرب في المنظومة الكونية للملكية الفكرية، حيث صادق على أول اتفاقية دولية سنة 2017، يتعلق الأمر باتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية لسنة 1986، والمعروفة باتفاقية (ويبو). وهي الاتفاقية التي تمثل الإطار النظري والقانوني المؤسس لحماية الملكية الفكرية، حيث وضعت المبادئ الأساسية الثلاث لهذا الملف، كما هو متعارف عليها في الأدبيات والمواثيق الدولية المرعية.
من هنا، أمكن القول إن المغرب قد تنبه مبكراً إلى الموضوع، سوى أن القضية لم تصبح قضية رأي عام قبل حلول سنة 1994، مع اتفاقية (الغات) التي انعقدت في مدينة مراكش، العاصمة السياحية لهذا البلد العربي، بتاريخ 15 أبريل 1994 -بعد عشرين سنة على انضمام المغرب إلى الاتفاقية العالمية لحقوق المؤلف-، ومع ذلك لا تزال المصنفات الفكرية والإبداعية لأبناء البلد عرضة لمختلف أشكال العسف والقرصنة وعدم الحماية. الأمر الذي يؤكد أن التوقيع على الاتفاقيات الدولية أو الانضمام إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية التي التحق بها المغرب سنة 1996، أو المصادقة على اتفاقية اليونسكو العالمية لحق المؤلف... كلها مبادرات مهمة لكنها ليست كافية من أجل ما نسميه (ثقافة الثقافة)، أو ثقافة احترام المثقف والإنتاج الثقافي بشكل عام، من الإبداع إلى الترويج والتداول والاستهلاك. الأمر الذي يقتضي وجود سياسات ثقافية تقوم بتفعيل الطابع القانوني لحماية الملكية الفكرية، والتحسيس بحقوق الملكية الفكرية وأهميتها في تطوير الصناعات الثقافية.
وبخصوص التجربة المغربية، على المستوى التشريعي، بدأ الأمر بإحداث المكتب المغربي لحقوق المؤلفين، بتاريخ 8 مارس 1965، كما وقع تعديله في يوليو الماضي، إلى جانب القانون 66.19 المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، ثم يأتي قانون حماية الملكية الصناعية، في سنة 2000، والذي تحدث عن براءات الاختراع، ونطاق تطبيقها، كما تحدث عن الحق في الحماية، في المادة 189 وما بعدها. وبموجب القانون 13.99 تم إحداث المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية. ويبقى قانون الملكية الفكرية في المغرب، المعروف بالقانون رقم 02.00، كما تم تعديله هو الآخر، المرجع الأساس في هذا الباب، والذي حدد المبادئ العامة لحماية الملكية الفكرية، بدءاً بتعريف المؤلف والمصنف، موضوع الحماية الفكرية، سواء أكان إبداعاً أدبياً أم فنياً، فردياً أو جماعياً أو مشتركاً، ورقياً أو سمعياً أو بصرياً... ويشمل القانون المغربي (تعابير الفولكلور)، أيضاً، ممثلة في الحكايات الشعبية والشعر الشعبي والألغاز، وفي الأغاني والموسيقى الشعبية المصحوبة بآلات العزف، والرقصات والعروض الشعبية.
كما تحدث القانون عن التزامات المؤلفين وحقوق الترخيص للمنتجين، وشروط النشر والبث والاستنساخ والتأجير والتمثيل... وفي الفصل الثاني، حدد القانون مفهوم الحماية التي تبدأ بمجرد إبداع المصنف، حتى ولو لم يتم تثبيته على دعامة مادية. وهو يقصد (المصنفات الأدبية والفنية بما هي) إبداعات فكرية أصيلة في مجالات الأدب والفن، مثل المصنفات المعبر عنها كتابة، وبرامج الحاسوب والمحاضرات والكلمات والخطب والمصنفات الموسيقية والمسرحية، والمصنفات الخاصة بالرقص والإيماء، والمصنفات السمعية البصرية ومصنفات الفنون الجميلة، والمصنفات الخاصة بالهندسة المعمارية والمصنفات الفوتوغرافية والتعابير الفولكلورية ورسوم إبداعات صناعة الأزياء. كما أولى القانون المغربي أهمية خاصة للعنوان، معتبراً أن عنوان المصنف إنما يحظى بالعناية نفسها التي يحظى بها المصنف ذاته. وفي المادة الخامسة، أدرج الترجمات والاقتباسات والتعديلات الموسيقية وكذا تحويلات المصنفات والتعبيرات الفولكلورية ضمن ما أسماها (المصنفات المشتقة)، التي تسري عليها أحكام هذا القانون. وحدد القانون العقوبات الجنائية المترتبة عن المساس بحقوق المؤلف، وحقوق الملكية الفكرية، بشكل عام، من خلال فرض غرامات تصل إلى مئة ألف درهم (ما يعادل 10 آلاف دولار)، وفرض عقوبات حبسية تصل إلى أربع سنوات. كما نص القانون في المادة 66 منه على أن تطبق أحكام هذا القانون على تلك التي يحق أن تشملها الحماية طبقاً لمعاهدة دولية صادقت عليها المملكة المغربية.
تجربة إقليمية
يمثل المغرب تجربة إقليمية مهمة على امتداد أرجاء العالم العربي، وهو الذي انضم إلى المجمع العربي لحماية الملكية الصناعية منذ تأسيسها سنة 1987. وفي التقرير الأخير لمركز سياسة الابتكار العالمي، التابع لغرفة التجارة الأمريكية، تبوأ المغرب المرتبة الأولى عربياً، والمرتبة 22 عالمياً. وحلت المملكة المغربية في صدارة التصنيف رفقة الإمارات العربية المتحدة والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية. وهو ما يجعل التجربة المغربية من جملة التجارب العربية الصاعدة الجديرة بتتبعها والتوقف لدى خصوصياتها وتحدياتها. ولئن وَضَحَ لنا أن هذه التصنيفات إنما تعتمد على تطور التشريعات القانونية الخاصة بالملكية الفكرية في كل بلد، فإن هذه التصنيفات لا يمكن أن تعكس لنا مدى مطابقة النصوص القانونية لمقتضى الحال. ومع ذلك، وجب علينا أن نتوقف عند المدونة القانونية المغربية في جانبها المتعلق بالملكية الفكرية.
تجربة شخصية
منطوق النصوص والمواد القانونية يقابله ملموس تجربة شخصية في معترك الثقافة المغربية منذ أواخر القرن الماضي. أمكن أن أنطلق هنا من تجربتي الشخصية، على المستوى الإعلامي، حين اشتغلت، صحافياً، على موضوع القرصنة في العاصمة الاقتصادية للمملكة (الدار البيضاء)، في بداية الألفية الحالية، وكيف كان نسخ وتقليد الأعمال السينمائية، وعرضها للبيع في الشارع العام، يؤثر بشكل جلي على صناعة سينمائية في بداياتها. وقل الأمر نفسه عن صناعة الكتاب، بسبب ظهور طبعات مصورة ومقرصنة (ومشوهة) معروضة بأثمنة زهيدة، أعيد تصويرها وتقليدها في مطابع سرية في العديد من أقطار الوطن العربي. ما يدفعنا إلى التساؤل عن مدى تفعيل النصوص القانونية التي تجرم هذه الأفعال، وكيف تم طبع وشحن وتوزيع هذه المصنفات، وعرضها في الفضاء العام من أجل البيع. أما الحملات التي كانت تقوم بها الفرق الأمنية لمداهمة بعض محلات قرصنة الأقراص المدمجة للأفلام السينمائية والأشرطة الموسيقية، فقد كانت حملات موسمية سرعان ما تتوقف ليعود عرض الأعمال المقرصنة أمام الأنظار، وفي واضحة النهار.
أما التجربة الثانية فكانت من خلال عضويتي في لجنة دعم النشر والكتاب في وزارة الثقافة المغربية، خلال السنوات الأخيرة. فقد تبين لنا أن الكثير من المشاريع المقدمة للدعم لا تبالي بحقوق المؤلف، وأن الكثير من العقود التي يبرمها الناشرون مع المؤلف تخلو من وعي بحقوق الملكية الفكرية، ما يدفع اللجان إلى فرض مزيد من القيود والشروط قصد إعمال النصوص والمواد القانونية ذات الصلة وتفعيلها.
من خلال دراسة الحالة المغربية، ولها نظائر في الفضاء العربي، يتبين لنا أننا أمام مفارقتين نجري بين ضفتيهما في بحر هادر، ولا سبيل لنا إلى النجاة إلا بتجاوزهما. فأما المأزق الأول، فيتعلق بعدم تفعيل وتطبيق القانون، رغم وفرة النصوص والتشريعات ذات الصلة بحقوق الملكية الفكرية. ويتعلق المأزق الثاني بغياب ثقافة حماية الملكية الفكرية، في مجتمعات لا تزال تنظر إلى الثقافة على أنها محض ترف، ومجرد هوايات، وتزجية أوقات فراغ، ولحظات إمتاع ومؤانسة. بينما تسهم الثقافة في اقتصاديات البلدان المتقدمة، وفي تحقيق نموها، وفي ترسيخ تقدمها وحداثتها، من خلال صناعات ثقافية تستثمر في التراث اللامادي، وفي المواهب الفنية والأدبية، وتروج للمنتج الثقافي والمنجز الإبداعي، من أجل صناعة أسمى تصبو إليها الدول الرائدة من خلال الثقافة والثقافة وحدها، ألا وهي صناعة المستقبل.

ذو صلة