مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الملكية الفكرية: نعم ولا

للملكية الفكرية يوم في السنة، يحتفل به المبدعون والمفكرون وغيرهم من المعنيين بهذا الشأن كل 26 أبريل. وهو يوم تحسيسي بالدرجة الأولى للوقوف على أهمية الملكية الفكرية في تشجيع الابتكار والإبداع. وقد مر الاحتفال بهذا اليوم سنة 2022م على سبيل المثال تحت شعار: (الملكية الفكرية والشباب: الابتكار من أجل مستقبل أفضل). وقد سلف منذ سنة 2000م للدول الأعضاء في الويبو أن حددوا يوم السادس والعشرين من أبريل يوماً عالمياً للملكية الفكرية، وهو اليوم الذي دخلت فيه اتفاقية الويبو حيز النفاذ منذ سنة 1970 (الاتفاقية هذه هي التي أنشأت المنظمة العالمية للملكية الفكرية سنة 1967 ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ سنة 1970 قبل أن يتم تعديلها. وقد أصبحت الويبو من الوكالات المتخصصة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة سنة 1974.
ويرجع المتخصصون بداية الويبو إلى القرن التاسع عشر وتحديداً إلى سنتي 1883 و1886 بإبرام اتفاقيتي باريس لحماية الملكية الصناعية واتفاقية بارن لحماية المصنفات الأدبية والفنية). أي أن مفهوم حماية الملكية الفكرية يعود إلى زمن غير بعيد تاريخياً، ويبدو أن الدافع لمثل هذه الحماية في القرن التاسع عشر يعود إلى كثرة الاختراعات التقنية التي بدأت تغير وجه العالم، فكان لابد من حماية لهذه الاختراعات وضمان حقوق المخترعين والمبتكرين، والطريف في هذا التصور هو دخول الأعمال الأدبية والفنية -يبدو أن المقصود بذلك فني الرسم والموسيقى خصوصاً- في باب الملكية الفكرية التي يجب حمايتها. لقد ظلت الأعمال الأدبية من شعر ورواية ومسرح مكتوب طيلة قرون خارج دائرة الملكية الفكرية. بل إن المفهوم في حد ذاته لم يكن موجوداً في العصور القديمة. فهل كان المتنبي أو المعري أو أبو تمام يطالبون بحقوق ملكية أدبية باستثناء الحصول على ما كانوا يحصلون عليه من عطاء مالي من الأمراء والوزراء وأصحاب النفوذ، وهل كان الوراقون في بغداد في العصر العباسي مثلاً يدفعون مقابلاً لأصحاب المصنفات مقابل نسخ كتبهم؟
لكن المواقف والآراء في خصوص الملكية الفكرية تبدو في حقيقة الأمر متباينة تبايناً شديداً بين أنصار للملكية الفكرية وخصوم لها معارضون.
خصوم (الملكية الفكرية)
لا مناص من الإشارة هنا إلى أن التسمية (الملكية الفكرية) هي الشجرة التي تخفي خلفها غابة كثيفة متشابكة لاتساع ما تشمله الملكية الفكرية اتساعاً شديداً يجعل الضبط عسيراً والمراقبة شبه مستحيلة، لكثرة الإنتاج الفكري والفني والصناعي وتنوع العلامات والرموز والأيقونات التي تدخل في باب الملكية الفكرية. لكن هل من وجاهة لمثل هذه الملكية؟ أليس مفهوم (الملكية الفكرية) هذا مضاداً لما يعرف اليوم بـ(مجتمع المعرفة)؟ ألا يتطلب بناء هذا المجتمع المأمول أن تنتقل الأفكار والمعارف والكتب فيه دون قيود تحد من انتشارها؟ ثم ألا يكرس هذا المفهوم هيمنة العالم الصناعي المتقدم على العالم السائر في طريق التقدم كما يقال؟ أليس حق الملكية الفكرية غطاء لتكريس الهيمنة والتبعية وفرض سيطرة الشركات الكبرى العالمية على الأسواق الكونية؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير نجدها تتردد في أوساط الرافضين لهذا الحق بدرجات متفاوتة.
يشير البعض مثل سيتيفان كنسيلا N. Stephan Kinsella في كتابه بالفرنسية تحت عنوان (ضد الملكية الفكرية intellectuelle contre la propriété) إلى أننا كلما ابتعدنا عن المحسوس والملموس (الجسمي) تصبح الأسئلة أكثر غموضاً وضبابية. وعلى هذا الأساس يبدو مفهوم الملكية الفكرية هو كذلك محل اعتراض لأنه مفهوم واسع كما أشرنا إلى ذلك. وملخص الأمر أن حق هذه الملكية هو حق على أشياء غير ملموسة أي على أفكار. من قبيل حق المؤلف (copyright) وبراءة الاختراع Brevet والسر التجاري والعلامة المسجلة. إن مربط الفرس في النقاش الدائر حول الملكية الفكرية هو في مسألتي حقوق المؤلف وبراءات الاختراع على خلاف العلامة/ الماركة والسر التجاري حيث تبدو المشاكل أقل استعصاء. ويوجد تقليد قديم معارض لبراءات الاختراع وحقوق المؤلف التي اتسعت لتشمل فضلاً عن الأعمال الأدبية البرمجيات الإعلامية.
إن مناهضي الملكية الفكرية منذ القرن التاسع عشر خصوصاً مثل برودون proudhon قد أدانوا الملكية الفكرية باعتبارها حامية لمصالح الأقوياء. إن نشر عمل ما للعموم من قبل مؤلفه يجب أن يأخذ شكل هبة للمجتمع لأن المؤلف يمتح في نظره من الرصيد المشترك المعرفي، ويبدو أن مثل هذه الحجج هي التي تقف اليوم وراء أنصار (لا لحقوق النشر no copyright) على الإنترنت. إن ارتفاع أسعار الكتب على سبيل المثال لا يعني أن صاحب الكتاب هو الذي يحصل على حقوقه المادية وإنما كثيراً ما تذهب هذه العائدات إلى دور النشر الكبيرة خصوصاً التي تمتلك حقوق النشر والتوزيع. لذلك يشكو الكتاب أصحاب الفكر من ذهاب جهودهم الفكرية لفائدة فئة قليلة تنتصب بين القارئ والمبدع تحدوها عقلية تجارية تتعامل مع الإنتاج الفكري باعتباره سلعة كغيره من السلع التي تروج في الأسواق. فلا القارئ يستفيد من الإنتاج الفكري ولا صاحب الإنتاج يستفيد من عمله، وهذا ما يتعارض مع مفهوم مجتمع المعرفة حيث تجري عملية سلعنة المعرفة وتحويلها إلى منتوج مادي يخضع لقانون السوق.
أنصار الملكية الفكرية
الحجة الأظهر والأقوى التي يستند إليها أنصار الملكية الفكرية هي أن حماية هذه الملكية تشجع الباحثين والمخترعين من الشباب خصوصاً على الابتكار والإبداع وتحفزهم على التطوير. إن الكاتب يجب أن يكون مالكاً لأعماله لأنها ثمرة عمله حسب نظرية لوك في العمل (نظرية الحق الطبيعي) أو لأنها حسب التصور الكانطي للفرد امتداد لشخص صاحبها. وقد تبنى الاقتصاديون الليبراليون في فرنسا هذا الموقف وقالوا بحق ملكية دائم للكاتب على خلاف الذين سعوا إلى القول بانتهاء الملكية الفردية بعد مدة من موت صاحب الأثر. لقد سعى الليبراليون خصوصاً لتأسيس مفهوم الملكية الفكرية برده إلى نظرية العمل خصوصاً واعتبار الإنتاج الفكري ثمرة عمل ذهني لا يختلف عن العمل اليدوي وعلى المؤلف أن يتمتع بثمار عمله.
لئن كان النقاش في القرن التاسع عشر دائراً حول الأعمال الأدبية والفنية خصوصاً فإن تعقد أشكال الإنتاج الفطري اليوم وتنوعها يجعل من الصعب محاصرة الظاهرة والسيطرة عليها خصوصاً مع وجود وسائل تواصل اجتماعية يصعب التحكم فيها والسيطرة عليها. مثل مواقع الكتب الإلكترونية المصورة خارج حقوق التأليف أو بعض المواقع التي تروج الأفلام والأعمال الدرامية مثل المسلسلات وتتيحها لجمهور واسع مجاناً. هذه المواقع تنشر المعارف كونياً من ناحية وتتيح لجمهور واسع أن يحصل على مؤلفات يصعب الوصول إليها بسبب العائق الجغرافي، ولكنها من ناحية ثانية تنتهك حقوق المؤلفين والناشرين، وتلك هي المعضلة الكبرى اليوم التي يواجهها مفهوم الملكية الفكرية في عالم جديد قوامه الانفتاح وزوال الحدود وتراجع الرقابة.
لكن موضوع الملكية الفكرية قد أصبح اليوم واقعاً في موقع تقاطع بين القوى الاقتصادية الكبرى المهيمنة على العالم بما تنتجه وتسوقه من منتوجات وعلامات تجارية. ولعل الصراع الدائر بين الصين والبلدان الغربية حول ظاهرة (التقليد) الرائجة لدى الصينيين والمعارك حولها في منظمة التجارة العالمية خير مثال على أن حق الملكية الفكرية تحول كثيراً بالقياس إلى ما كان عليه في القرن التاسع عشر ليصبح موضوع صراع مصالح رأسمالية كبرى لا تملك المنتوجات فقط بل تمتلك العلامات والرموز والأيقونات كذلك.

ذو صلة