مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الجهود السعودية في الملكية الفكرية

قد يظن البعض أن الملكية الفكرية مفهوم حديث جاء عقب الثورة الصناعية في أوروبا، والحقيقة أنه مفهوم قديم تشكل مع مرور القرون وفق المتغيرات الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية، وقد ربط القرآن الكريم ممارسة الملكية الفكرية بالبعد الأخلاقي قبل التأطير القانوني، فالمولى عز وجل يقول في كتابه الكريم (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الآية 188 سورة آل عمران.
والمتأمل في مضامين هذه الآية الكريمة يصل إلى حقيقة أن الشريعة الإسلامية اعتبرت أن من ينسب أعمال الغير له، ليجد الثناء والتقدير أو المال من المجتمع، فقد ارتكب جرماً كبيراً يستحق عليه العذاب الأليم، وبهذا الفهم فإن الإسلام يتفق مع كل الجهود التي جعلت للملكية الفكرية مؤسسات تراعاها وتدافع عنها.
من أصعب الجهود الإنسانية أن تجد مواعين تحمي المشاعر والأحاسيس والإبداع الذي تبلور في شكل نصوص وكتب واختراعات وقوالب صناعية وعلامات تجارية بل حتى الأسماء التجارية من السطو والسرقة، لأسباب متعددة منها اتساع دائرة تعريف الملكية الفكرية، فهي لم تعد محدودة في ظل التنوع الإبداعي أياً كان نوعه، بالإضافة إلى تقاطع المفهوم مع الأنشطة الثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والصناعية، وقد واجه مفهوم الملكية الفكرية عدة تحديات أبرزها التطورات الهائلة في النشر خصوصاً بعد الثورة المعلوماتية وظهور الإنترنت وتعدد أوعية إبراز صنوف الملكية الفكرية، هذه المتغيرات جعلت الدول والمنظمات التي تهتم في هذا المجال أمام إستراتيجيات جديدة في مقدمتها جعل الحفاظ على قضايا الملكية الفكرية ثقافة مجتمع خصوصاً في المنطقة العربية، هذا الأمر يجعلنا نقترح للتربويين إدخال ثقافة الملكية الفكرية ضمن المناهج التربوية في المدارس والجامعات، وذلك لضمان الاستخدام الإيجابي مع أعمال الغير المنشورة في الفضاء الرقمي، كما نقترح على كليات الدراسات العليا في الجامعات إدخال مقرر الملكية الفكرية لطلبة الدراسات العليا لجعل الباحث يفرق بين الرجوع للفكرة لتطوير المعلومات وبين السطو عليها، وقد بذلت الجامعات والمراكز البحثية الجهود الكبيرة في استخدام برامج للكشف عن هذا السطو، ولكنها أهملت جانباً مهماً وهي أن تجعل ممارسة الحفاظ على الملكية الفكرية ثقافة راسخة في الممارسة البحثية.
إن قيام الحكومات باستصدار تشريعات لحماية الملكية الفكرية تمثل ضماناً للأطراف المتعددة المتشاركة في صنع الإبداع والمستفيدين منه، فهي من جهة تحمي المؤلفين والمبدعين والمخترعين، ومن جهة أخرى تحمي المستفيدين من التكرار والتطوير والتسلق على أكتاف الغير، وتظل هذه التشريعات سمة حضارية تميز تطور الأنشطة المتنوعة في الدول، وبالتالي لا بد من التطوير المستمر لهذه الأنظمة لأنها مرتبطة بالتطور التقني والتكنولوجي، ولعل هذه المواكبة واحدة من المظاهر التي تميز أنظمة حماية الملكية الفكرية في المملكة العربية السعودية، مما جعلها قبلة للكثير من المبدعين والمؤلفين والمخترعين الذين يحتاجون مثل هذه البيئة المثالية. فقد بذلت جهداً كبيراً في استحداث أنشطة وقائية رسمية وغير رسمية لنشر الوعي بحقوق الملكية الفكرية، هذا الأمر ساهم في ارتقاء المملكة العربية السعودية إلى مرتبة عالية في التصنيف العالمي لها في مجال الملكية الفكرية، وهنا لا بد من الإشادة بإصدار الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، حيث أطلق الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، يوم الخميس 28 جمادى الأولى 1444هـ الموافق 22 ديسمبر 2022م، الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، التي تعد إحدى ممكنات تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، والهادفة إلى بناء منظومة للملكية الفكرية تدعم الاقتصاد القائم على الابتكار والإبداع من خلال إنشاء سلسلة قيمة للملكية الفكرية تحفّز تنافسية الابتكار والإبداع وتدعم النمو الاقتصادي لتصبح المملكة رائدة في مجال الملكية الفكرية. والمتأمل لبنود هذه الإستراتيجية يلحظ الاستيعاب العميق لمفهوم الملكية الفكرية والتي تتقاطع مع الأنشطة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، والمملكة بهذا الفهم تضع معايير جديدة ومتطورة مرتكزة على الاحتياجات الحقيقية لحماية المستثمرين والمخترعين، ولعل الأبرز في هذه الإستراتيجية هي أنها أصبحت من النشاط الحكومي قبل نشاط المنظمات مما يعكس وعياً عالياً بهذا المفهوم، كما أن الإستراتيجية في ملامحها أطرت وظائف الملكية الفكرية وفق منهج جديد كان إلى وقت قريب صعب الاستيعاب، وننتظر من خلال الممارسة لهذه الإستراتيجية واقعاً جديداً أساسه وعي المؤسسات والأفراد بهذا الحق، فالإستراتيجية ليست وثيقة قانونية بقدر ما هي وثيقة رؤيوية توضح نقاطاً مهمة لكل الأطراف المتشاركة في تحويل الإبداع إلى صناعة، وهي بهذا الطرح تحول الإبداع إلى مهنة وتجعل قطاعاً مهماً من المبدعين متفرغين إلى الإنتاج الفكري والصناعي لضمان حقوقهم المادية والمعنوية، فالإستراتيجية أوضحت وسهلت طرق تسجيل الأفكار أياً كان نوعها من خلال بناء أجسام قانونية مبنية على الموضوعية، كما أنها أطلقت اعترافاً رسمياً بأهمية قطاع منتجي الأفكار وإدماجهم في الصناعات الثقافية والاقتصادية والخدمية، وهذا من شأنه تطوير القطاعين الاقتصادي والثقافي.
إننا ندعو من خلال هذا المقال الدول والحكومات والمنظمات العاملة في مجال ضمان الملكية الفكرية إلى إشراك كافة المؤسسات والأفراد في بناء نظم تضمن هذا الحق، فلم تعد الملكية الفكرية شأناً يهم المؤلفين والمخترعين فقط ولكن توسعت دائرتها لتشمل المصانع والمتاجر وبالتالي لا بأس أن تبدأ بعض المؤسسات بإضافة قسم الملكية الفكرية ليكون قسماً ضمن إدارات العلاقات العامة والإعلام، كما أنه آن الأوان للجامعات والمؤسسات التربوية لتأسيس برامج للملكية الفكرية ضمن كليات القانون أو التسويق أو الاتصال، ومستقبلاً يمكن إنشاء كليات لدراسة هذا التخصص الجديد، ويجب أن يكون ذلك محط نقاش الأكاديميين والتربويين، كما نأمل أن تزداد حركة النشر والتأليف والبرامج التوعوية لمفهوم الملكية الفكرية لتشمل كافة قطاعات المجتمع، والأمل كذلك من المؤسسات الإعلامية أن تفرد مساحات للمتخصصين للتوعية بهذا المفهوم في ظل التحولات والمتغيرات الكبيرة التي يشهدها.
نكتب هذا المقال وفي الخاطر جهود المملكة العربية السعودية في هذا المجال والتي تستحق بكل جدارة أن تكون الأنموذج في العالم والمنطقة العربية.

ذو صلة