مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

تحديات قانونية ورؤى مستقبلية

إنه منذ إدخال حقوق الملكية الفكرية في إطار النظام التجاري العالمي الجديد، فقد أضحت ضرورة وضع إستراتيجية للملكية الفكرية في كافة المجالات -في واقع الأمر- أمراً حتمياً، بل ملحاً على كافة الأصعدة، سواء السياسية منها، أم الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو الثقافية، وذلك من أجل مواكبة التطور العالمي في هذا المجال، وإنفاذ حماية حقوق الملكية الفكرية إنفاذاً فعالاً بما يسهم في تشجيع روح الإبداع والابتكار التكنولوجي، ونقل وتوطين وإنتاج التكنولوجيا والثقافة والفنون، وكذا تعزيز ودعم إدارة وتقييم واستغلال أصول الملكية الفكرية اقتصادياً، ومساهمتها الفاعلة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ولأن الإبداع لا حدود له، ولا تحكمه رؤى محلية؛ لذا كان من الصعوبة بمكان أن تستقل الملكية الفكرية في مصر بإستراتيجية تفصلها عن مثيلاتها في العالم الخارجي، ذلك لأن النظرة المصرية تعد في عالم الإبداع والفن رافداً من الروافد الدولية، التي لا يمكن أن تتناقض معها، فهي ند لا ضد، الأمر الذي يتطلب معه أن يتشكل البنيان بوجهتين مختلفتين في الشكل، متلازمتين في المضمون، على أن يسمح بانصهارهما في بوتقة صرح واحد، باعتبارهما فرعين من شجرة واحدة، الأساسي منهما هو (الملكية الفكرية)، كونها الوجه الإستراتيجي الذي ينبغي أن يتصدر المشهد في سياسات الدولة، والآخر هو (الإبداع)، لما له من أثر فعال في وضع وتقنين الضوابط الحاكمة للصناعات الإبداعية والثقافية ولعالم الفن، ما يحتم على القطاعات المختلفة، والقائمين على الثقافة والتراث والسياحة والإبداع والابتكار والصناعة؛ مراعاة ذلك في أطر من الإستراتيجيات العامة للدولة.
وتبدو وجاهة الحديث نافذةً جليةً، عندما نعلم أن الموضوع لم يكن بالطبع جديداً، أو كان ابتكاراً فذاً، تفتقت عنه الأذهان في لحظة توقف فيها الزمان، لكن الموضوع جد مهم، إذ تبنت مصر منذ فترة ليست بالبعيدة، خطةً لإعادة هيكلة كيان الملكية الفكرية كاملاً، بعد أن تعددت الوجوه، واختلفت المفاهيم، من أجل إيجاد آليات جديدة، تكرس لوضع أسس ثابتة، تقف على أكتافها سياسات قاطعة، تكون موضع التنفيذ على مستوى الدولة ككل، ذلك بعد أن باتت الملكية الفكرية قطاعاً غاية في التعقيد، لاسيما وأن مفاهيمها قد غلفت بأطر حمائية أحياناً، واقتصادية أو تنموية أحايين أخرى، ما جعل منها صرحاً قائماً بذاته، متعدد الأدوار في الأشكال والمفاهيم.
وربما كان هذا دافعاً للدولة والقائمين عليها والمشرع الدستوري، لأن يكونوا حريصين كل الحرص على إدراج مادة خاصة بحماية حقوق الملكية الفكرية في الدستور المصري الحالي لعام 2014 لأول مرة في تاريخ البلاد (مادة 69). ومن هذا المنطلق، فالملكية الفكرية قد أصبح لها -بلا شك ولأول مرة- بعداً دستورياً جديداً، عد نقطة تحول فارقة في تاريخ هذا المجال، الذي سيكون من شأنه أن يدفع بعجلة الدولة لوضع سياسات موحدة لحماية الملكية الفكرية بشتى أنواعها في كافة المجالات، لاسيما مجال الصناعات الثقافية والإبداعية، من خلال الجهاز المختص، والمزمع إنشاؤه لرعاية تلك الحقوق، وإنفاذها وحمايتها القانونية.
وانطلاقاً من حرص الدولة على ترسيخ حقوق الملكية الفكرية على مستوى أرض الواقع العملي، وإدراكاً منها لما تلعبه آليات الملكية الفكرية من أدوار في دفع عجلة الإبداع والابتكار والاقتصاد والبحث العلمي والتطور التكنولوجي، وتقاطعها وتداخلها في عديد من القطاعات، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة بمختلف أبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بما يتوافق مع المصلحة العامة ويحقق التوازن المنشود بين حقوق المجتمع من جهة وحقوق المبدعين والمبتكرين من جهة أخرى؛ لذا فقد تم إطلاق الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية خلال شهر سبتمبر من عام 2022 التي تعتبر بمثابة حجر الزاوية لمنظومة متكاملة للملكية الفكرية وترتبط أهدافها ومحاورها الرئيسة مع كل من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وأجندة المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) للتنمية، وكذا (رؤية مصر 2030) (إستراتيجية التنمية المستدامة). وتجدر الإشارة إلى أن الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية تقوم على أربعة أهداف رئيسة، تتمثل في: حوكمة البنية المؤسسية للملكية الفكرية، وتهيئة البيئة التشريعية للملكية الفكرية، وتفعيل المردود الاقتصادي لها، وأخيراً توعية فئات المجتمع المصري بالملكية الفكرية.
ولا مراء في أن الجهاز القومي المعني بحماية حقوق الملكية الفكرية الذي يجب أن يرى النور خلال عامين من تاريخ إطلاق الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية سيكون له دور محوري وفعال في تفعيل هذه الإستراتيجية وإنفاذها على أرض الواقع العملي، وكذا توحيد جهود إدارات ومكاتب الملكية الفكرية المشتتة وفق أحدث أساليب الهيكلة الإدارية والتنظيم المؤسسي، وتحقيق التناغم والتكامل بين مفردات منظومة الملكية الفكرية. وهذا الجهاز -الذي سينشأ في شكل (هيئة عامة اقتصادية) يكون لها الشخصية الاعتبارية العامة وتتبع رئيس مجلس الوزراء- سيحل محل كافة الوزارات والهيئات والمصالح العامة والمجالس والإدارات والمكاتب والوحدات وغيرها من الكيانات الإدارية الحكومية المختصة بتطبيق أحكام قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002، وذلك في مباشرة الاختصاصات المنوط بها فيه وفي أي من القوانين والقرارات واللوائح ذات الصلة.
ويهدف الجهاز إلى حماية واحترام حقوق الملكية الفكرية وإنفاذها إنفاذاً فعالاً بما يسهم في تشجيع روح الإبداع والابتكار التكنولوجي والبحث العلمي ونقل وتوطين وإنتاج التكنولوجيا، حفاظاً على المنفعة المشتركة لمنتجي المعرفة التكنولوجية ومستخدميها على نحو يحقق الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية، والتوازن بين الحقوق والواجبات. وفي سبيل تحقيق أهدافه سيتولى الجهاز اتخاذ ما يلزم من قرارات وبوجه خاص مباشرة الاختصاصات الآتية:
- إعداد واعتماد الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، ووضع خطط عمل وبرامج زمنية لتنفيذها بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة، ومتابعة هذا التنفيذ.
- إعداد مشروعات القوانين والقرارات واللوائح المتعلقة بحماية حقوق الملكية الفكرية وإنفاذها، والاشتراك في مناقشة أحكامها بغية إصدارها، وإبداء الرأي فيما يعرض عليه من تلك المشروعات.
- إصدار الصكوك والوثائق والتراخيص وغيرها مما يلزم لحماية حقوق الملكية الفكرية بناء على الطلبات المقدمة من المبدعين والمبتكرين وأصحاب الحقوق.
- إتاحة المعلومات المتعلقة بحماية حقوق الملكية الفكرية.
- التوعية بأهمية حماية حقوق الملكية الفكرية وإذكاء احترامها.
- تمثيل الدولة في المنظمات والتجمعات والروابط الدولية والإقليمية ذات العلاقة بمجالات الملكية الفكرية وما يتصل بها، والدفاع عن مصالح الدولة في هذا الصدد.
- إبداء الرأي في شأن المعاهدات والاتفاقات وأية صكوك دولية متعلقة بمجالات الملكية الفكرية، ومتابعة تنفيذ الالتزامات المترتبة على انضمام الدولة لها.
- تعزيز الاستفادة من الملكية الفكرية كرافد أساسي في بناء اقتصاد المعرفة.
- وضع القواعد والإجراءات التفصيلية اللازمة لتعزيز إنفاذ حقوق الملكية الفكرية بمراعاة البعد التنموي.
- إنشاء قواعد للبيانات في مجال عمل الجهاز، وتبادل المعلومات مع الجهات المحلية والإقليمية والدولية ذات الصلة.
- تعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية للمصريين في خارج البلاد، واتخاذ ما يلزم لدفع الاعتداء عليها.
ومن الغني عن البيان أن حقوق الملكية الفكرية بصفة عامة وحقوق المؤلف والحقوق المجاورة لها بصفة خاصة تواجه العديد من التحديات التي تحول دون إنفاذها إنفاذاً فعالاً على مستوى الدولة. فالمشكلة الحقيقية والرئيسة تكمن في تعدد الجهات المختصة بحقوق الملكية الفكرية ما يترتب عليه وجود تداخل وتضارب في الاختصاصات في بعض الأحايين، إذ أن هناك تسعة كيانات إدارية تتولى حماية وتسجيل حقوق الملكية الفكرية تتبع العديد من الوزارات بخلاف الجهات والكيانات الإدارية ذات الأدوار التنسيقية (مثل إدارة حقوق المؤلف بالإدارة المركزية للشؤون الأدبية والمسابقات بالمجلس الأعلى للثقافة، إدارة حماية حقوق الملكية الفكرية بقطاع الفنون التشكيلية، مكتب قيد التصرفات بالإدارة المركزية للرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية بالمجلس الأعلى للثقافة، الإدارة العامة للتراخيص الفنية بقطاع شؤون الإنتاج الثقافي بوزارة الثقافة، مكتب حماية البث والمصنفات السمعية والبصرية بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، مكتب حماية برامج الحاسب الآلي وقواعد البيانات بهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات، مكتب براءات الاختراع بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، الإدارة المركزية للعلامات التجارية والتصميمات والنماذج الصناعية بجهاز تنمية التجارة الداخلية، مكتب حماية الأصناف النباتية بالإدارة المركزية لفحص واعتماد التقاوي بوزارة الزراعة)، بالإضافة إلى عدم وجود نظام رقمي متكامل يسمح بإتاحة خدمة تسجيل وإيداع وقيد حقوق الملكية الفكرية بصورة إلكترونية، وعدم وجود قواعد بيانات لحصر وتوثيق وتسجيل المعارف التقليدية والتعبيرات الثقافية التقليدية، ناهيك عن انخفاض القيم المالية للغرامات الجنائية الموقعة على جرائم الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية تحت مظلة قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002، مروراً بعدم وجود نصوص قانونية واضحة تنظم المسؤولية المدنية والجنائية لمقدمي الخدمة على شبكة الإنترنت، وانخفاض الوعي العام بالملكية الفكرية وثقافتها وأهميتها الاقتصادية، وكذا غياب السياسات القطاعية لاستخدام أدوات الملكية الفكرية على نحو يدعم أهداف التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
لا يمكن لمنصف أن ينكر قيمة وأهمية وجود كيان موحد على مستوى الدولة يتولى إدارة منظومة الملكية الفكرية بفرعيها (الملكية الصناعية) و(الملكية الأدبية والفنية) وآلياتها المختلفة، ويضع إستراتيجية عامة يعمل من خلالها على إدارة وحماية واحترام حقوق الملكية الفكرية بشكل فعال وكفء والتنسيق بين الجهات المعنية والتعاون مع الجهات والمنظمات الدولية المعنية، وذلك من أجل تحقيق الأهداف المرجوة، لاسيما تعظيم دور حقوق المؤلف والحقوق المجاورة لها ومردودها الاقتصادي، وإقامة التوازن المنشود بين حماية حقوق المؤلف وبين إتاحة المعرفة ونشر الثقافة، وتعزيز الاستفادة والاستخدام الفعال لأوجه المرونات المقررة في نظام الملكية الفكرية بما يتوافق مع التزامات مصر الدولية، واستحداث أطر تشريعية لتنظيم الإدارة الجماعية لحقوق المؤلف، ووضع أطر للحد من قرصنة الصناعات الإبداعية والثقافية، والتعامل مع كافة الكيانات المعنية لحماية حقوق المبدعين والناشرين مثل اتحاد الناشرين المصريين واتحادات الغرف الصناعية والتجارية والأدبية ذات الصلة والنقابات المهنية وغيرها، وأخيراً وليس آخراً العمل على تهيئة البيئة التشريعية ومراجعة وتعديل قانون حقوق الملكية الفكرية في ظل الثغرات التي تشوب أحكام القانون والإشكالات العديدة التي تثار على أرض الواقع العملي سواء من الناحية القانونية أو الناحية التنفيذية.
ومن هنا، كان على قطاعات الثقافة والتراث والسياحة والصناعة والزراعة والصحة بكافة إداراتها، ألا تكون قد تجاهلت تلك الحقائق المهمة، حتى لا تبقى في معزل من أمرها، ولا تسير في الطريق وحدها دون النظر عن يمناها أو يسراها، إذ أن نجاح أي عمل لا بد أن يكون من خلال نظرة إستراتيجية وخطط قطاعية مفعمة لاستخدام آليات الملكية الفكرية المختلفة على نحو يدعم أهداف التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، تعكس لنا صورةً حيةً، يتطابق فيها وجها (الإبداع/الابتكار) و(الملكية الفكرية)، كونهما وجهان لعملة واحدة، يعملان معاً، ويكملان تصحيح مسار الصناعات الإبداعية والثقافية، والحفاظ على حقوق المبدعين والمبتكرين، انتهاءً بتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة في البلاد.
وعلى هدى مما تقدم، فإن أمر الصناعات الإبداعية والثقافية لا يمكن أن يختصر في مجرد رؤى فنية، وتشكيلات إدارية، إذ أن الأمر بالتأكيد أشد عمقاً، وأقوى رسوخاً من أن تكون الرؤى الفنية هي الحل، قدر ما ينبغي أن تكون ثمة سياسة عامة، تندرج تحتها مجموعة من الأطر الخاصة، يهتم كل منها بوضع رؤى حقوق مؤلف المبدعين والحقوق المجاورة في إطار (خط سياسي) لكل مجال من مجالات الإبداع، لاسيما الفن (التشكيلي والتطبيقي)، الموسيقى، الأدب، السينما، الإذاعة والتليفزيون، العلم والتكنولوجيا.. إلخ، ينطلق من خلالها نحو ترسيخ حماية حقوق الملكية الفكرية وتعزيز إنفاذها واحترامها.

ذو صلة