مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الرسم وشجونه

الرسم أثر صوري محرر لرؤية تصور ما على سطح فارغ، إنه تعبير فردي وسيلته خطوط وألوان وأشكال تنطبع على مساحة فارغة، وتنتج نظاماً لعلاقات. ينتسب الرسم إلى فاعلية العين الرائية المفكرة المنفعلة التي ترى وتعيد خلق ما تراه بكيفية ملائمة لرؤية خاصة، ومنظور شخصي، سواء أكان هذا الذي تراه العين واقعاً، أم خيالاً.
ليس ما سبق، قطعاً، تعريفاً؛ فالفنون كلها، كما تنبه كثيرون، لا تمتلك خصائص ثابتة يمكن معها تطويق ماهياتها بحدود تعريفات مطلقة قارة تتخطى فواعل الزمان والمكان والثقافات وما ينتج عنها من متغيرات. مع هذا كله بوسعنا تأكيد صفة مشتركة تجمع الفنون، لفظيةً كانت، أم بصرية، وهذه الصفة كامنة في فاعلية أي فن. فالفنون، عموماً نزاعة إلى تجريد الوقائع المألوفة من مألوفيتها بإخراجها من منطقة الواقع، وبدفعها إلى منطقة الغرابة. وتتفاوت (كمية) الغرابة المستحدثة، طبعاً، في الفنون المختلفة بتياراتها وأساليبها المتباينة قرباً من الواقع، وابتعاداً عنه. وأن ينزع مألوف مألوفيته ويتبدى غريباً؛ فذلك يجعله موضع فضول، وإثارة، ودهشة، ورعشة في الوجدان.
يمكن القول إن الرسم، والفن عموماً، يحرك الواقع دافعاً به من منطقة صلبة بلا احتمالات، وشحيحة الممكنات إلى منطقة مرنة، هي منطقة الاختيارات المتنوعة الحرة التي تسمح للفنان بالتحرك برحابة لإنشاء عالم فني أكثر إدهاشاً. بالفن يتحول الواقع من منطقة خمول إلى منطقة تحفيز.
الفن مجال أوسع لممارسة الحرية، بل هو الشكل المثالي الذي تتحقق فيه الحرية. فبوسع رسام أن ينكب على سطح فارغ رحب أو ضئيل، وينشئ بعين خياله ما يشاء من العوالم المثالية التي يعسر عليه أن يجد نظائرها حيث يعيش.
ما الذي يتولد عن الرسم؟ ما الذي يقدمه أي فن، إلى جانب المتعة التي هي أعظم ثماره؟ إنه يقدم تمثيلاً لرؤية جمالية فردية واعية، لفنان يدرك -صَلباً كان إدراكه، أم هشاً- أنه ينشئ صورةً على سطح تصويري، وهذه الصورة تقدم معرفة جمالية، وتثير استجابة ما.
إننا نرى، حوالينا، آثاراً ترتسم على سطوح عديدة على هيئة خربشات خطوط، ولطخات ألوان في الفضاءات العامة على الجدران، وهي نتاج فواعل البيئة والزمان، وأنشطة الإنسان، ويمكن أن نضيف إليها تشكيلات الغيوم على صفحة السماء، وما نراه من مشاهد طبيعية على الأرض، وهذه الآثار تثير فينا إحساساً جمالياً، ونجد متعة في رؤيتها رغم انتفاء القصد الفردي وراء تكويناتها المتحققة. إنها إنجاز أثري تنقصه إرادة الفن المعززة بالوعي والإدراك بحسب بعض منظري الجمال.
إن الرسم كعمل فني، عمل تفكيري، بحسب الناقد هربرت ريد، وليس عملاً اعتباطياً. لكن ماذا تعني الصفة تفكيري؟ تفكير في ماذا؟ أظن أنه تفكير في الشكل الذي يجب أن يكون عليه التكوين الخاص لذلك العمل، ليصير دالاً جمالياً بعلاقات شكله البنائية التي تدعم خليقته كمخلوق فني بمادته. تفكير في معالجة المواد، والسيطرة عليها من أجل أن تستجيب استجابة تامة، يمكن معها استنزال طاقاتها القصوى على سطح العمل. تفكير في العلاقات بين عناصر التكوين، وفضائه الخاص، وفي معماره، وتصميمه، ليتحقق مظهره العياني بإنشاء يجذب، ويدهش، ويؤثر بالظاهر من معالمه الماثلة.
وكعمل فني فإن الرسم حدث تخليقي يمكن رؤيته بتفاصيله في عملية تصيير تجري داخلها سلسلة من الأفعال، والمبادرات الواعية، وغير الواعية، وهي تستقبل مفاجآت لا تخطر على بال. وفي هذه العملية الخلاقة تتحاور وتصطرع قوى عديدة، قوى الواقع والخيال، وتتفاعل خبرات الرسام مع استجابات الرسم، أو استبطالاته، وانشقاقاته، كما تتفاعل حرية الرسام وأهواء الرسم نفسه بمواده، وعناصر لغته. وفي هذه العملية يكتشف الرسام قوىً عديدة تعمل معه على مسار إنشائه موضوعه، وهذه القوى لا تكف عن تقديم اقتراحاتها الخاصة لكل تفصيل يرتسم، فللرسم خزينه وذخيرته وذاكرته المزحومة بالأشكال، والتكوينات، والظلال. ومثلما يستعرض الرسام قواه، يستعرض الرسم هو الآخر قواه على سطحهما التصويري المشترك. وفي خلال هذه العملية يكتشف الرسام أن فكرته عن تحكمه بالرسم، وسيطرته عليه وحده، هشة وتتبخر أمامه في ضوء ما يبديه الرسم من ردود أفعال، مستجيبة، أو مقاومة، على كل ما يرتسم على السطح.
هناك قوى غامضة تتسلل من مناطق عميقة غائرة في الذاكرة واللاوعي والغرائز والمكبوتات، هذه القوى تجد طريقها إلى كل صورة فنية وتنشئ لنفسها منصة فيها.
الرسم أكبر من موضوعه، مهما تكن قيمة هذا الموضوع وجدواه. إن الموضوع على قماشة الرسام يخضع بتفاصيله كلها، ويتصير لاعتبارات شكلية، وقيم جمالية، وهذه الاعتبارات والقيم هي ما تقرر رفعة الموضوع، أو تواضعه. ولو واجه الرسام خيارين شكليين لعنصر من العناصر، أحدهما يقوي فحوى موضوعه، لكنه يضعف شكل هذا العنصر، والثاني يفعل العكس، فإن الرسام الجيد سيختار الأخير بلا تردد.
وإذاً فالعمل الفني لا يساوي موضوعه، بل هو أكبر من أي موضوع يعالجه، أكبر من المعنى الذي يرشح عنه، ففي موضوع كل عمل فني هناك شيء مضاف، وجوهري، وهذا الشيء هو نظامه الشكلي، ومعماره البنائي، وصياغته، وهناك أيضاً قوى الذات الغامضة التي أبدعته، وهذا النظام الشكلي هو الأكثر قدرة على منح العمل قوة الجذب والشد والتأثير. وكل عمل فني يراوغ موضوعه ويفلت منه ويصبح باثاً لشيء أكبر من موضوعه ومعناه. وبعض هذا الشيء غامض، وجاذب في الوقت نفسه.
يفضل الفنانون عموماً أن يلتفت متلقو أعمالهم، وقارئوها، ونقادها إلى الأشكال التي تحققت بها هذه الأعمال وإلى مستوياتها الفنية، ومظاهرها الجمالية المتحققة على سطوحها، وإلى التكنيك العالي الذي استخدموه في إنجاز تلكم الأعمال، وإلى براعتهم في السيطرة على مادتهم، أي أن يقوموا بتقييم هذه الأعمال بمعايير جمالية تتوجه إلى الجوانب الشكلية بمستوياتها الفنية، وتقدير قيمتها على هذا الأساس، قبل قيامهم بالالتفات إلى مواضيعها، ومضامينها، ومحمولاتها الدلالية.

ذو صلة