مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

بذور الذكريات (3)

ذهبنا لمنزل بحي الشرقية قريب من المقيبرة، أخبرني أبي أن نسلم على عمتي، وهو منزل لا يبعد عن بيت الأميرة دليل بنت عبدالعزيز، عرفت ذلك بعد أن مكثت في بيت عمتي مع أبنائها من الذكور والإناث، وكنت أتجول مع أبناء الجيران وتعرفت على البعض، ثم سجلت في كتّاب قرب مسجد الشرقية، كان المطوع -ويسمى الأستاذ- في ذلك الوقت (عبدالعزيز بن سويدان) ولسبب لا أعرفه ذهب بي قريبي للمطوع (... بن سليمان) شيخ وقور مسالم، وبعد أن اقترح قريبي صالح البريدي مع والده فهد البريدي، زوج عمتي الثانية وتعول أسرة متوسطة العدد أن يلحقني بالكتّاب القريب من منزلهم الواقع بين شارع السويلم وحي الفوطة، هو كتّاب المطوع (السّناري) هو رجل شديد جبار، وكانت الدراسة على فترتين، وكل هذه التنقلات في الرياض لم تزد عن الشهرين لنعود إلى العراك مع الطريق الموصل إلى الطائف، وما أن وصلنا إليها وفي اليوم الثاني إذا بي أذهب بصحبة أبناء الجيران زملائي السابقين للمدرسة العزيزية، وأدخل الفصل، والأستاذ عبدالله ماهر ممسك بيدي قائلاً: أخوكم الحميدين، هيا سلم على إخوانك يا سعد وكتب اسمي في الدفتر (دفتر الحضور) السنة الأولى.. (وكانت هذه السنة الثانية لي في السنة الأولى).
وجدت زملائي قد انتقلوا للصف الثاني، وفي فصل آخر، سألني بعضهم عن السبب فقلت لم أختبر والكتاب لا يمنح شهادة نجاح تقبل في المدارس الحكومية، وأنا أتنقل من مدينة إلى أخرى خلال العام الدراسي، وفعلاً لم يمض قرابة شهرين على بقائي في الطائف، إذ سافرنا إلى مكة وسجلت في السنة الأولى في المدرسة المحمدية، وبعد مدة ربما تكون ثلاثة أشهر، كانت السيارات التابعة للأمير تركي وحاشيته في طريقها إلى الرياض، خطوط هي بصمة عجلات السيارات تتراكم فوق بعضها ومن قرية عشيْرة بدأت الوقفات الطويلة في القرى والمدن التي نمر بها: المويه، الدفينة، عفيف، البجادية، الدوادمي، بعد تجاوز النفود المكونة من التلال الرملية، وما أن وصلنا (مرات) حتى صرنا نتباشر بقرب الرياض وتكون العيينة ثم الجبيلة.
ومن الدرعية تظهر علامات الرياض، وما أن نصل إلى حي الفوطة حتى يتوجه الكل إلى المنازل التابعة للأمير تركي بن عبدالعزيز الذي كان والدي من ضمن العاملين في خدمته.
سكنا في حي الشرقية في منزل يعود لجدي محمد كان مغلقاً لسنوات من بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى، وكانت البيوت متلاصقة والشارع أو السكة لا يزيد عرضها عن مترين أو تزيد قليلاً، والسكان كما الإخوة ما أن تكون مناسبة إلا والدعوة للجميع، الرجل الكبير في الشارع يمثل أباً لجميع الصغار الذين يكون لهم الممر كميدان للعب، وإن حصل خطأ أو إزعاج كان الرجل الكبير الكفيل بمعالجة الموضوع مع تعاون الآباء الآخرين. أذكر من الجيران في ذلك الوقت من منازل سكان حي الشرقية: بيت الدغيثر سعود، ومحمد بن الشيخ، وعبدالله بن شعيل، وناصر بن عباس، وإبراهيم الحنيوي، وبن هويشل، وبن صفيان، وبن مبارك، ومحمد بن موتان، والجوهر، والمقيرن، والمنيف، وبن قريميش، وغيرهم مما ند عن الذاكرة لطول المدة، وسجلني والدي في المدرسة المحمدية بحي دخنة، تقع المدرسة خلف (مِدي بن حمود) وهو عبارة عن حوض كبير يستقي منه السقاؤون حيث تكون ثلاث قرب تملأ من الماء وتوضع على كل محمل من محامل الحمير قربة وفوق الظهر الثالثة توزع على البيوت في الأحياء، كنت أذهب إلى المدرسة كل صباح مع الأخوين سعد بن سعود الدغيثر، وابن عمتي محمد بن ناصر بن عباس، كانا في السنة الثانية، أخرج بنهاية الحصة الخامسة وأنتظرهما عند المدي متأملاً ومتفرجاً على ما يحدث من مداعبات أو مشاغبات بين السقائين، وما أن تنتهي الحصة السادسة ويكون الانصراف نعود إلى منازلنا، وهكذا مرت الأيام. وأذكر مرة أنني لم أدخل المدرسة ولم يلاحظني أحد، ذهبت عند(المِدِيْ) متسلياً بما أشاهد، وقد علم بذلك أحد أقاربي فأخبر والدي، الذي باشرني بعلقة، تحملت الصفعات من كف الوالد، وصحبني في اليوم الثاني إلى المدرسة وأخبر المدير الذي طلب من (فرّاشين) أن يقيدا قدمي بغترتي وتولى لسع وسط قدمي بعصا الخيزران، وبغفلة سحب الوالد العصا وأخذ يلسع في معظم جسمي قائلاً: (ما تعرفون تطقون خلني أوريك فيه لأجل ما يتعودها). لم يشفع لي البكاء والصياح، وما أن عدت إلى البيت حتى نلت بعض الصفعات والتأنيب والوعيد مما كان درساً لي طوال أيام الدراسة وما بعدها (خوف الأب واحترامه ومن فضل الله شاهد أحفاده قبل وفاته ولم يسمع مني كلمة لا بل نعم وحاضر من الصغر حتى توفاه الله).
التحق سعد الدغيثر ومحمد بن عباس بمعهد الأنجال بالناصرية (معهد العاصمة)، وانتقلت إلى المدرسة الفيصلية في العجليّة أو أم سليم، وذلك لقربها من منزل بناه أبي في حي القرينين، وكان القرينين نخيلاً تنزع ويأتي أحدهم ممسكاً بعود جريد يسميه باع ويبدأ من نقطة يعد: واحد اثنين ثلاثة ويستمر ثم يقف قائلاً: (حط مرسم)، ثم يلتفت للجهة الأخرى ويكرر العدد، ثم (حط مرسم)، وهذه حدود الأرض التي ستبنى وتكون منزلاً (حَوِيْ) والبناء من تراب الأرض إياها، يحفر فيها ويظهر التراب الذي يخلط بالماء ثم يوضع في مكعبات من الخشب ويعرض للشمس أياماً ويرص فوق بعضه ملصقاً بالطين مكوناً غرفاً وحجرات. كان مدير المدرسة الأستاذ محمود شديداً ودقيقاً إذا تأخرت لو خمس دقائق عن الدخول صباحاً فلا بد من جزاء، يتكون الجزاء من لسعتي خيزران أو (مسطرة، أو مسطعة) من صنع النجار الذي يتفنن في صنعها من الخشب القاسي. كنت في السنة الأولى، وقد زار المدرسة مفتش، دخل مرتدياً مشلحاً أبيض ويرافقه أحدهم، وحان وقت صلاة الظهر فأمنا المفتش، وحثنا على الاجتهاد وفوائد العلم ومواصلة الدراسة، زار كل فصل على حدة، وعرفت من الأستاذ أن المفتش اسمه (ناصر المنقور) وصارت صورة المفتش ثابتة في المخيلة، ومع الزمن والوظائف التي شغلها معاليه -تذكرتها في الكبر- حيث مازالت تلازمني، وعند زيارة معاليه قبل سنوات لجريدة الرياض (التي كتب هو افتتاحية أول عدد، فهو من أهم الأعضاء المؤسسين لمؤسسة اليمامة الصحفية)، كانت زيارة مجاملة وأثناء تجواله على الأقسام وفي القسم الثقافي بصفتي المسؤول عنه ذكَّرته بتلك الزيارة القديمة التي مر عليها سنوات عديدة، تقبل تلك الذكرى ببشاشة أكرمني بأن سمح لي أن يلتقط مصور الجريدة صورة تجمعني به، وهي صورة أعتز بها.
أكملت السنة الأولى بتفوق، إذ كنت الأول، وبالسنة الثانية صرت عريف الفصل بحكم الأولوية، وفي الفصل منهم أكبر مني بسنوات ومنهم بسني وأصغر، وذات يوم كان الفصل في (شوشرة) في الفسحة أو الفرصة، فإذا بالمراقب يسأل عن العريف ويتوجه إلي ويذيقني صفعة تخيلت أن شرراً تطاير من وجهي ويتبعها لسعة بعصاه الخيزران، عاتباً على عدم سيطرتي على الفصل، فحقدت عليه وطلبت من مدير المدرسة -عن طريق قريبي الموظف في المالية- أن يكون العريف على الفصل هو أكبرنا سناً، وفعلاً تم واسترحت ومازلت أتمثل تلك الحادثة حتى اليوم. (سامح الله المتسبب، ورحم الله من توفي، وأمد في عمر من بقي ممن ورد ذكرهم في هذه السطور المتواضعة).

ذو صلة