مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مزمار قمر الذئب الدموي

في ليلة من ليالي ديسمبر ترتفع أصوات مزامير الجن في السماء، وتمر الأرض بين الشمس والقمر، لتتوارى الشمس خلف الأرض، ويتحرك القمر في ظل الأرض الذي تعكسه الشمس، مكملاً دورته، مكتسباً ظلاً شديد الحمرة عند رؤيته من الأرض، في مشهد خسوف يخترقه عواء الذئاب كمزامير تدق أبواب السماء، فيكتمل القمر متوهجاً بلون قرمزي، وتغطيه مجموعة من السحب السوداء في شكل ذئب.
يعم الظلام الكون ويعصف بعاصفة جليدية كأنها أنفاس تنين تلقي بأغصان الأشجار المهشمة في الشوارع، تزداد كثافة الثلج حتى يغطي البيوت والأشجار، فتتعالى أصوات أشبه بطلقات الرصاص من الشقوق التي تحدث بجذوع الأشجار، فتسقط جذوع الأشجار على خطوط الكهرباء التي تسقط بدورها على الأرض وتتلوى مثل الأفاعي وهي تبصق شرار كهربائي أزرق، يحول كل ما حوله إلى ألوان لا حصر لها، تصعق النظر وتميت القلب.
بدأ الظلام ينسدل تدريجياً، وتهدأ العاصفة قليلاً، لكن البرد بدأ يشتد محولاً كل ما حوله أقرب إلى عظام ثلجية ميتة براقة مختلفة الأحجام.
تتباعد السحب تدريجياً كاشفة عن وجه القمر، فيلمع الثلج الذي حوَّل الشوارع إلى سطح أبيض براق.
يخترق هذا الظلام القابض للأرواح.
عواء شيء ما.. آت من لا مكان وكل مكان مثل عواء الذئاب.. بدا أنه آت من لا مكان وكل مكان.. مثله مثل ضوء القمر الذي يغمر الكون.. آت من لا مكان وكل مكان..
إنها مراحل تحول القمر إلى الذئب الدموي.
متجسداً في شكل ذئب دموي يطل بعينيه الحمراوين من السماء المظلمة. يدوي بزئير مرعب، ويقوى تدريجياً إلى أن يصير عواء، أشبه بمزامير الجن في السماء.
بعدها يرتفع الذئب الدموي على حافة السماء، ويركض نحو الأرض بقوة نارية بفرائه المشعث باللون الأحمر البرتقالي في لهيب النجوم وعيناه شعلتان ناريتان براقتان، ذو يدين آدميتين، ولكن قد حلت المخالب مكان الأصابع، كأنه شيطان يمكن أن يكون في أي مكان وأي موضع أو هيئة.
إنها بداية تحالف القمر مع الشيطان ليرقصا رقصة الموت على مزامير الجن، على تيار أخضر ذهبي هادئ من ضوء النجوم، ليتغير شكل القمر الدموي ليلاً ويتحول إلى مستذئبة تتجول في الغابات وهي تتظاهر بأنها ذئب بلا ذيل كي تتصيد فرائسها في الغابات.
تبدأت المستذئبة البحث عن حبيبها البشري ذي الساعدين العضليين الموشمين حتى تجده وتقرر مراقبته كل يوم ليلاً.
وفي إحدى الليالي كان ينهي حبيبها عمله في لحظات متأخرة جداً، وكان المكان خالياً تماماً، فأسره نسيم الليل الهادئ الذي يحرك أوراق الشجر على حدود الغابة.
وقف بعض الوقت يشتم الهواء، وينظر إلى ضوء القمر الأحمر الذي ملأ سماء الليل وينعكس بريقه على الأرض، ويتذكر شبابه الأول وحبه القديم.
على هذا الضوء الهادئ، سمع صوت خافت، فرأى غصون الشجر تحت الشرفة تهتز وتتباعد.
شعر أنه ليس على ما يرام تلك الليلة.. مريض أو مرهق ربما.. فيقرر أن يشرب فنجان قهوة. يجد أن فنجان القهوة المعدن المفضل لديه يلمع كالمرآة، وفي سطحه العاكس المقوس يرى شيئاً لا يصدق ربما مخيف!
يستدير خلفه فيصدم ذراعه فنجان القهوة، فيسقط على الأرض وتنتثر القهوة الساخنة في كل مكان.
يحرك ساعديه ويصرخ آلماً وخوفاً. نعم هو خائف.. لقد نسي وزنه الثقيل وعضلات ساعديه الممتازة.
نسي كل شيء إلا المستذئبة، التي تقف هنا أمامه على قدميها الخلفيتين، وتمشي كما تمشي المرأة وتحدق فيه بعينيها الجاحظتين الحمراوين اللامعتين وتطلق أنفاسها الحارة في وجهه، كأفعى تقذف اللهب الأخضر الذهبي ذي الرائحة البارودية، والضوء الأحمر يلمع على فرائها معطية بريقاً قرمزياً وتتضخم أمامه كالسحر، مثل وحش في أفلام الرعب. وحش خرج من الشاشة فجأة.
تتحرك حوله ببطء، وهي تحاول أن تشم رائحة ضعف الضحية، تتقلص شفتها العليا التي لونها مثل لون الكبد، كاشفة عن أنياب مصفرة طويلة حادة.
يحاول حبيبها أن ينظر إلى اللون الأحمر الذي يتوهج في عينيها، فيشعل عود ثقاب في وجهها ليخيفها. ينطلق منه بعض الشرر، فيحرق بعض الشعيرات الدقيقة في يديها، تتراجع المستذئبة للوراء للحظة، وتطلق زئير ألم وغضب يخترق أبواب السماء.
فيعتلي صوت مزامير الجان في السماء مع مزيد من العواء، وتقفز المستذئبة على حبيبها ويسقط أرضاً، في فيضان من الدم يخالطه زفيرها الدافئ الذي يمتزجه اللون الأحمر، إذ تغوص أنيابها في عضلة ظهره.
يتأرجح حبيبها واقفاً على قدميه مصدوماً لا يستطيع البكاء، لكن صدمته ما هي إلا عاطفة حب سوداء، يفوق من صدمته، ويشعر بعدها أن ظهره ينزف بقوة، يحاول الصراخ وهو يشم رائحة الفراء المحروق الذي يملأ أرجاء المكان، بينما ضوء القمر الدموي يسبح من النافذة. يشعر فجأة أن شيئاً ما يتغير بداخله، وجهه يلتوي وأنفه يتسطح ويطول. يزداد بدانة. قميصه القطني ينتفخ ويتمدد. فجأة تتمزق الخياطة، تثب خصلات شعر قوية من صدره لتزداد كثافة وتملأ أنحاء الجسم والوجه. شفتاه الرقيقتان تتشققان وتتراجعان كاشفة عن أنياب حادة غليظة. يداه تحولتا إلى مخالب، وصار وجهه الباسم الرقيق شيئاً حيوانياً، وعيناه البنيتان صارتا خضراء ذهبية مخيفة.
وكذلك صوته لم يعد صوته.. لقد تحول إلى نوع من العواء بلا مقاطع.. يقفز من النافذة، ليكون ضوء القمر الدموي آخر ما يراه حبيبها المذئوب الممسوخ!
ليتحقق تحالف رقصة موت القمر الدموي مع الشيطان على مزامير الجان..
على ضوء اللون القرمزي المميز لخسوف القمر.
فكما قيل (إن الشيطان يسير بيننا في كل مكان.. عند اكتمال القمر الدموي دورته.. يتخذ أي وضع تجسد ليحي رقصة الموت).
إنه الحب يشبه الموت أحياناً.
إنها حبيبته قاتلة الليالي القمرية عادت لترقص معه رقصة الموت الأخيرة على مزامير الجن!

ذو صلة