مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

البوصلة نحو آسيا.. لكن ببطء شديد

السؤال الذي يتكرر كثيراً الآن في العديد من وسائل الإعلام المختلفة في كل بلدان العالم تقريباً هو: هل تسبق الصين أمريكا اقتصادياً؟ والبعض يقول إن السؤال لم يعد يصح بأن يبدأ بـ(هل)، بل الأصح أنه يجب أن يبدأ بـ(متى)؛ لأن الصين من وجهة نظرهم سوف تتجاوز الولايات المتحدة اقتصادياً في 2030، وربما قبل هذا التاريخ.

هناك مشكلة حقيقية في تقديم إجابة موضوعية صادقة عن مثل هذا السؤال تتمثل في أن معظم من يجيبون عنه لا ينطلقون من أرضية علمية موضوعية قابلة للقياس، بل من مواقف سياسية وأيديولوجية محددة ومنحازة للصين أو الولايات المتحدة.
والسؤال الثاني الملحق بالسؤال الأول هو: هل انتهى عصر القطبية الأحادية الأمريكية وبدأنا الدخول إلى عالم متعدد الأقطاب يميل بالأكثر إلى البوصلة الآسيوية، وليس فقط إلى الصين؟ وبالطبع فمن حقنا كعرب أن نسأل أيضاً: وأين نحن كعرب من كل هذه الأسئلة السابقة؟
في ظني أنه يصعب كثيراً تقديم إجابة دقيقة وحاسمة لمثل هذه الأسئلة، لكن هناك مؤشرات ووقائع وأحداثاً قد تساعدنا في الوصول للإجابة الأقرب إلى الصحة، وليس الإجابة الصحيحة الحاسمة.
اقتصادياً فإن الرقم الوحيد المؤكد هو أن الولايات المتحدة ما تزال حتى هذه اللحظة هي العملاق الاقتصادي الأكبر عالمياً بنحو 22 تريليون دولار ناتجاً محلياً إجمالياً، وتأتي خلفها الصين بنحو 18 تريليون دولار.
لكن بالطبع لو أضفنا القوى الآسيوية الأخرى خصوصاً اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وإندونيسيا وبقية النمور الاقتصادية هناك، فإن الكفة تتجه تماماً للبوصلة الآسيوية خصوصاً جنوبها الشرقي. لكن هناك أيضاً من يجادل ويقول إننا إذا أضفنا اقتصاد الاتحاد الأوروبي إلى أمريكا فسوف تظل الكفة تميل لمصلحة الغرب على حساب الشرق.
النظرة الموضوعية تقول إن آسيا تحقق معدلات نمو مرتفعة ومتواترة مقارنة بأوروبا التي تعرضت لضربات مؤلمة أكثر بسبب تداعيات فيروس كورونا ثم الأزمة الأوكرانية، خصوصاً في ملف الطاقة.
والمؤكد أكثر أن الولايات المتحدة باتت مسكونة بهاجس أن الصين سوف تسبقها على الأقل اقتصادياً في مدى زمني قصير، ولذلك فهي بدأت باتخاذ خطوات استباقية لمنع ذلك أو على الأقل لتعطيله بكل الطرق.
رأينا إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب تتقرب من روسيا إلى حد ما، لكنها تتشدد كثيراً مع الصين اقتصادياً، وتفرض المزيد من الرسوم الجمركية على الصادرات الصينية، بل وتلاحق وتمنع الاستثمارات الصينية في المجالات الحساسة، ثم زادت الضغط على كل الدول الأوروبية والحليفة لمنع التعاقد مع الصين على تكنولوجيا الجيل الخامس، ووقتها ألقت كندا القبض على ابنة مؤسس شركة هواوي الصينية العملاقة، وهو الأمر الذي واصلته إدارة جورج بايدن لكن بلغة أقل عنفاً. ورغم الانشغال الأمريكي بالمواجهة مع روسيا في أوكرانيا إلا أنها لم تنس الصين، ورأينا محاولات أمريكية ممنهجة لجر الصين إلى اشتباكات، بما يقود إلى مواجهات متعددة قد تعطل التقدم الصيني. ومثال ذلك الزيارات الأمريكية المتعددة لتايوان والتي بلغت قمتها بزيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي لتايبيه، في تحد واضح للتصريحات الصينية بأنها ستمنع الزيارة بأي ثمن. ثم تلا ذلك المزيد من التصريحات الأمريكية بدعم تايوان في حالة إقدام بكين على ضمها بالقوة في أعقاب المناورات الصينية المتعددة قرب الأجواء التايوانية. وحدث كل ذلك في أعقاب مخاوف أمريكية من إقدام الصين على ضم تايوان بالقوة تأسياً بضم روسيا للقرم في 2014 وضمها لإقليمي الدوبناسي ودونتسيك في الشهور الأخيرة.
رأينا أيضاً التركيز الأمريكي على محاولة حصار الصين في مجالات متنوعة، وتشكيل تحالفات سياسية ودبلوماسية وأمنية كثيرة بقيادة الولايات المتحدة، لكن في مقابل كل ذلك فإن الصين ورغم الصعوبات الكبرى الناتجة عن تداعيات فيروس كورونا، وإخفاق سياسة (صفر كوفيد) التي يعتقد أنها ستترك أثراً سلبياً كبيراً على النمو الاقتصادي، إلا أن الصين واصلت التحرك في مجالات متنوعة.
هي تواصل الانتشار العسكري في بحر الصين الجنوبي، وهو ما تراه الولايات المتحدة ودول المنطقة عسكرة محضة، واستفزازاً للدول المحيطة.
اقتصادياً فإنها تنشط من خلال العديد من التحركات من أول مبادرة الحزام والطريق مع العديد من بلدان العالم، ثم من خلال البنك الآسيوي الذي بات ينافس بقوة مؤسسات التمويل الدولية الغربية مثل الصندوق والبنك الدوليين، بل وتقدم إغراءات متعددة للدول النامية، حينما تقدم مساعدات لا تتضمن الشروط الصعبة التي يقدمها صندوق النقد، أو الاشتراطات السياسية مثل حريات التعبير وحقوق الإنسان.
أنصار الصين يرون أن صعودها وتبوؤها الصدارة العالمية بات مسألة وقت، وأن النموذج الأمريكي آخذ في التراجع، وأنصار الولايات المتحدة يرون العكس.
وللموضوعية فإن الصين وآسيا يتقدمان بقوة وخطوات ثابتة، مستغلين الإنتاج الضخم والصادرات الأضخم، والقيم الآسيوية في العمل التي تزعج أمريكا والغرب كثيراً، في حين يكاد النموذج الأمريكي يكون ثابتاً إن لم يكن يتراجع اقتصادياً، بل ويتراجع سياسياً، خصوصاً بفعل صعود اليمين الشعبوي الذي يقوده دونالد ترامب الذي جعل البعض يخشى أن تفقد أمريكا قوتها كمنارة للقوة الناعمة والتنوع الخلاق والإبداع.
لكن النقطة الأكثر أهمية التي يراها الأمريكيون وأنصارهم هي أن النموذج الأمريكي، وبغض النظر عن أرقام الاقتصاد، لا يزال هو الأكثر إغراء عالمياً خصوصاً فيما يتعلق بالقوة الناعمة.
يقول هؤلاء إن الطلاب الصينيين الذين يدرسون في الجامعات والمعاهد الأمريكية بمئات الآلاف وربما بالملايين، في حين لا يدرس طالب أمريكي واحد في الجامعات الصينية، إلا بغرض العمل الدبلوماسي.
ثانياً: لدى أمريكا سينما هوليوود وهو ما لا تملكه الصين. ولدى أمريكا كل اختراعات التكنولوجيا الحديثة وتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، لكن معظم ما تمتلكه الصين في هذا الصدد كان تقليداً أمريكياً. لكن الصين تقول إنها ماضية في طريق التقدم التكنولوجي وشبكتها للجيل الخامس هي الأفضل عالمياً.
لدى أمريكا المستشفيات والجامعات المرموقة ومراكز الأبحاث، وهي أكبر قوة عسكرية في العالم وميزانيتها تساوي مجموع الدول السبع التالية لها، وهي الوحيدة القادرة على خوض أكثر من معركة كبرى في وقت واحد ومسارح مختلفة.
رأيي الشخصي أن الصين سوف تواصل التقدم وقد تتفوق اقتصادياً بعد سنوات، لكن النموذج الأمريكي لن يفقد بريقه بسهولة، وسيظل قادراً على تجديد نفسه، ما لم يصعد اليمين المتطرف للحكم مرة أخرى.
وفيما يخص منطقتنا فالأفضل من وجهة نظري أن نتعامل مع الجميع على أساس مصالحنا العربية، وحسناً فعلت السعودية حينما استضافت القمتين الأمريكية العربية والصينية العربية، وهذا أمر شديد الأهمية يحتاج مزيداً من النقاش.

ذو صلة