مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

أين آسيا في خريطة مستقبل العالم السياسي؟

أدت التطورات التي شهدها العالم في العقدين الماضيين إلى تغيير في موارد ومصادر القوة الشاملة للدول، حيث تزايدت أهمية التقدم العلمي والتفوق التكنولوجي، والقدرة على الابتكار والبحث العلمي، وامتلاك القدرة على استخدام وتطوير الثورة الرقمية، كما تزايدت أهمية تماسك الدول وقدرتها على الحركة والمرونة في الداخل والمحيط الإقليمي والدولي، إضافة إلى امتلاك القوة الاقتصادية بمفهومها الحديث والتقليدي معاً، خصوصاً قدرات الاعتماد على الذات والتفوق في ميزان التجارة مع العالم.

هذا التغير في مصادر القوة، سوف يتبعه، بالطبع، تحول في مراكز القوة في اتجاه الشرق الآسيوي، حيث هنا في آسيا، تتضاعف الابتكارات وبراءات الاختراع، وقد تراكمت مقدرات الإنتاج الصناعي في الصين وكوريا واليابان، وخلفهم النمور الآسيوية، ثم القوى الصاعدة، ومن آسيا تتكثف الحركة الدولية المؤثرة، بأدواتها الجديدة.
ورغم ما أحدثته تطورات العامين الأخيرين مع جائحة كورونا من تغيرات ملحوظة في مجمل البنى الاقتصادية لكثيرٍ من الدول الغربية، إلا أن سرعة التحولات الدولية في صالح القوى الصاعدة في آسيا تضاعفت، إذ إن العديد من هذه الدول حافظت على معدلات النمو، واستخدام التقدم العلمي في التعامل مع الجائحة، وحافظت على تماسك مجتمعاتها وقوة اقتصاداتها، في الوقت الذي لم تحقق الكثير من الدول الكبرى في مناطق أخرى من العالم الكثير من النجاح في مواجهة الوباء وآثاره الاقتصادية، وافتقدت إلى المرونة الكافية.
في ضوء هذا الواقع، تبدو قارة آسيا في مقدمة المسار العالمي في مواكبة هذا الاهتمام بالتجمعات والمنظمات الإقليمية ذات الطابع الاقتصادي، وبخاصة أنها تحوز على أكبر مراكز الإنتاج، وكذلك النسبة الكبرى من السكان والأسواق في العالم.
ويبدو أن القرن الحادي والعشرين يسير بخطى ثابتة نحو آسيا بكل قواها الصاعدة، خصوصاً: الهند والصين وإندونيسيا وتركيا وماليزيا والسعودية، وسيكون لذلك تداعيات واضحة على منطقة المحيط الهادئ وقارة آسيا. ويمكن القول إن العلاقات بين القوى الآسيوية نفسها، ومع القوى الخارجية، ستأخذ مسار التعاون والصراع معاً؛ حيث تختلط المصالح وتوازنات القوى وتوجهات الدول المطلة على المحيط الهادئ بمزيدٍ من التعاون حيناً والصراع أحياناً، وهذا، سيأخذ شكل إما التعاون الاقتصادي أو بروز الخلافات السياسية، وهذا ما يحتم بناء تكتلات اقتصادية وعسكرية جديدة.
وهنا، يمكن الحديث عن تأسيس أو تشكيل حلف (ناتو أطلسي - آسيوي)، والتي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على بنائه ليقوم بمهمة محاصرة واحتواء الصين في آسيا والمحيط الهادئ واليابان وكوريا الجنوبية والهند مع السعي إلى ضم السعودية له، علماً أن الصين مدركة لذلك، وبالتالي فإنها تقوم ببناء قواعد عسكرية في بحر الصين الجنوبي.
إلى ذلك، فإن مقولة إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً آسيوياً هي مقولة فيها مصداقية؛ إذ تبرز، وبقوة، أهمية الصين وروسيا والهند في هذه المرحلة، والتنافس الدولي على المحيط الهادئ. وفي خضم ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم ببناء قواعد جديدة: عسكرية وغير عسكرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بالتنسيق مع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية في شمال المحيط الهادئ والهند في غربه، وكل ذلك يندرج تحت هدف احتواء الصين وتقييد تمددها.
وفي حال تطرقنا إلى أحد أهم القوى الاقتصادية الصاعدة عربياً، وهي السعودية، فإنه يمكن القول إن محورية السعودية تنطلق من أهمية أنه إذا قامت واشنطن ببناء قواعد عسكرية، وعملت على احتواء هذه الدول والتأثير فيها من خلال الوجود العسكري المباشر؛ فإن الصين طريقتها مختلفة؛ إذ إن التأثير الصيني سيكون من خلال مشروع (الحزام والطريق) المتجسد بالتمدد الاقتصادي، لذا تبقى أهمية السعودية مضاعفة، باعتبارها المورد والمصدر الأساسي للطاقة عالمياً، وبخاصة البترول، وهذا مهمٌ للصين وللسعودية بالطبع، مع الإشارة هنا إلى أن السعودية تقع ضمن نطاق هذا المشروع الذي يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى إلى حدود إيران وباكستان ثم الجزيرة العربية ويخترق القارة الأفريقية؛ بحثاً عن الموارد.
وفي هذا الخصوص، فإن زيارة الرئيس الصيني، شي بينغ، الأخيرة إلى السعودية، وإبرامه العديد من الصفقات الاقتصادية معها، إلى جانب التقائه بقادة دول خليجية وعربية، تنطلق من أهمية السعودية في مفاعيل السياسة العربية والإقليمية والدولية كذلك. من هنا، يستوجب الأمر التركيز على هذه الوضعية الجيوإستراتيجية للسعودية بغية تحقيق أهدافها، وتطلعات دول العالم العربي وشعوبه.
إن السعودية ستكون نقطة اشتباك ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية لمحاولة استمالتها من الطرفين بشكلٍ تام، مع الملاحظة المهمة هنا، أن السعودية ما زالت علاقتها قوية مع واشنطن، وإن شهدت بعض التراجع أو التوتر مع إدارة بايدن الحالية، لذا، قد تقوم الرياض بلعب دور تكتيكي من خلال فتح قنوات اتصال مع بكين.
وفي السياق ذاته، ففي الوقت الذي يواجه فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحديات كبيرة جراء الحرب على أوكرانيا، دون النجاح، على الأقل حالياً، في استعادة نفوذ بلاده في الكتلة المحيطة بها، سواءً في شرق أوروبا أم في وسط آسيا؛ فإن الصين ستكون هي اللاعب الحيوي في منطقتي المحيط الهندي والهادئ وفي الشرق الأوسط، على الأقل اقتصادياً، وهذا ما دفع بوزارة الدفاع الأمريكية إلى إصدار توجيهات جديدة لقيادتها لمنع (الهيمنة الصينية).
وعلى الرغم من تناغم مواقف الصين وروسيا في المواجهة مع الولايات المتحدة إلا أن النمو الصيني المتسارع قد يجعل موسكو رهينة لحدود إمكاناتها الاقتصادية، لذلك تتجه بخط متوازٍ لتنمية علاقتها مع الهند لسبب مهم، وهو أنها تعلم أن مركز الثروة لديها في القطب الشمالي وليس أوروبا الشرقية، لذلك هي بحاجة لرأس المال الهندي لتنمية عجلة الاستثمار هناك بعيداً عن الضغوط الصينية.
إن الحديث عن التحولات الدولية الجديدة المرتبطة بقارة آسيا وقواها الكبرى الصاعدة طويل، متشابك، ومعقد، ولكن مجمل القول: إن عملية التوازنات ورسم السيناريوهات للمستقبل لن يكون سهلاً؛ لأن هنالك تداخل بين الاعتبارات الاقتصادية والفواعل السياسية والأحلاف العسكرية الذي من الممكن أن يساعد في بروز عالم متعدد الأقطاب، تتوازى فيه المصالح، وتتشابك المنافع، وبالتالي يُفضي إلى نوعٍ جديد من توازن القوى الذي تقوده كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
استناداً إلى ذلك، فإن على العرب توظيف ما لديهم، من عراقة التاريخ، وسعة الجغرافيا، وكثافة وتنوع الموارد، ووحدة الهدف والمصير، من أجل المشاركة والمساهمة في هذا (العالم السياسي الجديد)، حتى لا يظلوا على هامش التأثير والتغيير والحضور. وبتحقيق ذلك، سيكون لهم، بالتأكيد، دورٌ في تحديد معالم هذه الخريطة وتوجيه إشاراتها.

ذو صلة