مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

قراءة في ما جادت به السبل إلى الحكمة العين الخبيرة تستولد القيمة عبر المرئيات

نادراً ما تجد بين كتب تطوير الذات، والقيادة الإدارية الناجحة وغيرهما من مجالات ذات صلة - وكلها مهمة ورائجة على نطاق واسع - كتاباً موضوعه الحكمة واكتسابها وكيفية البحث عنها والوصول إليها عبر التجارب اليومية في الحياة، ومقدمٌ بأسلوب تأملي تعويذي (تعويذة)، ما يمنح المتابع المهتم أدوات فكرية وروحية للتعامل مع التحديات الحياتية على اختلافها.
هذا ما وقع بين يديّ من محتوى لكتابين، دفعني إلى التنويه به لما اشتمل عليه من توجه أخاله جديداً، خارجاً على السائد والمتداول. أتحدث هنا عن التوجه الجديد لا بصفتي قارئاً يولي الكتب اهتماماً استثنائياً من الوقت والجهد، إنما بصفتي مدرباً في تطوير الذات إضافة إلى ورش في الإعلام التطبيقي، مارستها لسنوات عديدة. عليَّ الإشارة هنا إلى أن الكتابين المذكورين هما من تأليف الكاتبة السعودية نجاة الريّس: الأول، مسافرة مع الطريق إلى الحكمة، والثاني، تعويذات على الطريق إلى الحكمة. كانا من ضمن مئات العناوين الأخرى في معرض الشارقة الدولي للكتاب في العام الفائت.
سمات التميز
هنالك سمات تميز المحتوى شبه الموحد في الكتابين عن غيرهما من الكتب المماثلة، أقلهُ - تلك التي اقتنيتها وقرأتها - يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
السمة الأولى، إن كلا الكتابين يقدمان تجربة شخصية عميقة في البحث عن الحكمة، مع التركيز على التأمل الذاتي وفهم النفس البشرية من الداخل، لا الاكتفاء فقط بتقديم النصائح الوعظية أو القواعد العامة.
السمة الثانية، أسلوب المؤلف الذي مزج فيه بين السرد الذاتي والتأملات الروحانية، واقترض فيه الكثير من حوارات المسرح، وهو ما يمنح القارئ شعوراً بالمشاركة في رحلة أطلق عليها (محاولة لاكتشاف الذات)، وليس مجرد تزوّد بالمعلومات.
كما تبرز في الكتابين معالجة لقضايا منها ضعف وعي الإنسان بنفسه، وجهله بجوانب غائرة في تضاعيف ذاته، كذلك صراعه مع مقاييس الصواب والخطأ. وموضوعات كهذه غالباً ما يتم إغفالها أو يصار إلى اختصارها في الكتب المدرجة في قائمة (التنمية الذاتية التقليدية). وفي الكتابين حرصٌ بائن على أهمية فهم الدوافع والانفعالات الداخلية لدى الإنسان، لا فقط على السلوك الخارجي للإنسان.
جمع المتناثر يولّد قيمة
يستخدم المؤلف في كتابيه لغة شاعرية تأملية، وأحياناً تعبيرات (تعويذية) تمنح النص طابعاً حيوياً شبه متفرد، ما يجعله أقرب إلى النصوص الأدبية منه إلى الكتب الإرشادية، الجافة، فالكاتبة تعرض مواقف حياتية وتجارب شخصية عبر الأسفار والترحال، وربط تلك المواقف والتجارب الشخصية بأبعاد فلسفية وروحيّة، ما يمنح المتتبع المهتم آفاقاً واسعة للتأمل والرؤية بأبعاد مفتوحة.
مقطع القول: إن محتوى الكتابين لا يركز على وصفات جاهزة أو حلول سريعة، إنما يدفعان القارئ لاستنباط ما يراه ويقدر على تكوينه، من خلال هذا النثار الذي يتم ربط بعضه ببعض، في عملية سيميائية تفضي إلى معنى وقيمة إنسانية.
في الوقت الذي يصعب فيه أحياناً تصنيف المحتوى وتبويبه، في مؤلفات وطروحات كالتي نحن بصدد الحديث عنها، تظل المضامين ذات بريق أخّاذ، ينخطف إليه محبو السير الغيرية، يدفعهم إلى ذلك التأمل والتفكّر في ما لفت المؤلفة من مرئيات وما بعدها، وخروجها من جميع هذه الأمشاج، لجهة الإشارة والعلامة والتماثل، وذلك بعملية سيميائية طريفة لم تخطر على بال، وقد تشمل هذه المرئيات حركية الكائنات الحية في الطبيعة على إطلاقها، وفي محيط التجمعات العمرانية السكنية الحديثة، حيث سكنى الإنسان التي تعزّ فيها غالباً السكينة المبتغاة، في عصر يضّج راهنه بكل ما هو مخالف ومختلف ونافر وغامض.
المحتوى بمجمله هو محاولة لسبر ما في المرئيات الملتقطة، والبحث فيما بينها من ترابط يفضي من وجهة نظر الكاتبة إلى معنى وقيمة، تلك التي قد لا تراها العين العادية في نظرتها العابرة إلى الأشياء، حتى وإن تمهلت عندها تبقى المسألة صعبة من حيث الربط فيما بينها للخروج بصورة أو تصوّر أو دهشة من نوع خاص. لا يتأتى ذلك الربط والتوليد سوى للعين العليمة المراكمة للخبرة عبر الزمن، تلك الذاكرة، قاعدة البيانات الخاصة، ما تجعل حاملها قادراً على توليد المعاني من المبعثر بين المخالف والمختلف والشبيه والمتماهي، وصولاً إلى قيمة دالة تفضي إلى الحكمة أو جانب منها.
الترحال والتنقل
رمزية الطريق - الدرب يشي بأبعاد تعني في المجمل الأساس - التنقّل والتجوال، فإن يبرح الإنسان المكان إلى جديد غيره، في المحيط أو في بقاع أخرى بعيدة على الكوكب، ليقر فيه مؤقتاً، غالباً ما يكون دافعه إليه فضول جارف للمعرفة، والشغف المتراكم ذاك المؤجل من قرون، الذي يزداد قوة لبعد التجوال والتنقل على مشقتهما. إن شغف ما بعد الرحلة دائماً ما يكون ألذ مشاعر وأحاسيس لدى الكثيرين من الرحلة ذاتها، حيث التعب يعقبه هدوء مغمور بالتدبر والتأمل فيما تمت مشاهدته في الطريق وهي تصير ماضياً يستدعى، وذكرى تستعاد بفعل الحنين.
في حال الترحال والتنقل، يعايش الإنسان عملياً، ومن دون أن يعلم، رحلتان في آن معاً: رحلة المرئي الملموس والمتخيل، وأخرى هي رحلة الذاكرة بما تنطوي عليه من تاريخية تراكمت عبر الزمن. تلك أراشيف مؤقتة وثابتة. رحلتان معاً يقوم بهما طالب الحكمة، في زمن واحد، وقلب واحد، ومنظور واحد، ومعالج اختباري واحد، فهذا الكل هو مجتمعٌ في فؤاد المرتحل/ المسافر على الطريق إلى الحكمة.
لا عتبة كما نرى أنسب من هذه التي قلنا بها، تضعك على بوابة المحتوى للكتابين المذكورين، فلكل سبيله لاكتشاف المعرفة أو بعض منها، من الخبيئة الكونية تلك المطمورة عبر القرون الضوئية تحت رميم المجرات.

ذو صلة