مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

سعيد البادي تسكنُ قلبَه مكة

تنتظم رحلة سعيد البادي إلى الحج، زيارته المدينة المنورة أيضاً، والكتاب رحلة مختصرة تشتمل على فصول متعددة بعضها يفيد من الأحداث التاريخية فيستثمرها، ونُشرت الرحلة في طبعتها الأولى عن دار صفصافة بمصر، في عام 1432هـ/2011م، في نحو مئة وعشر صفحات من القطع الصغير.
وبدءاً بعنوان الرحلة يمكن القول إنه عنوان يوائم ما بين الإيضاح والإخفاء، فلا يستبين معه القارئ إن كان كتاب رحلة أو كتاب تأملات، ويحمل العنوان نفسه أيضاً وظيفة إغرائية للمتلقي، وتكمن أهمية هذه الوظيفة وصعوبتها في الوقت نفسه، حول الكيفية التي يستطيع بها الكاتب أو الرحالة، أن يثير فضول القارئ، لحمله على اقتناء كتابه وقراءته، وربما إهدائه.
وإذا ما نظرنا إلى مقدمة الكتاب، وجدنا حرص المؤلف على التوطئة للمقدمة بالأفكار التي لامست شغاف قلبه، فبثّها في مفتتح مقدمته، فمن خلالها تولّدت لديه الرغبة في كتابة الرحلة، وصفاً يتصل بالتاريخ وبالمكان، في محاولة منه لفهم مناسك الحج بلغة واضحة غير متكلفة، وفي ذلك يقول: (في تلك الأجواء وُلدت بداخلي فكرة تسجيل رحلتي المقدسة تلك، إلى الكعبة المشرفة لأداء مناسك الحج، فالحياة رحلة والأماكن محطات يمرُّ بها أو من خلالها الناس، وقد حَرِصتُ هنا على أن أسجل تاريخ الأماكن التي مررت بها والناس الذين مروا بها من قبلي وبصماتهم التي تركوها (...) هنا محاولة لتسجيل كيف حدث ذلك ولماذا؟! يمكن أيضاً أن يكون هذا الكتاب محاولة بسيطة متواضعة لفهم شعائر ومناسك الحج بطريقة مبسّطة، وبلغة خالية من الغموض بالطريقة نفسها التي فَهِمت بها كل شيء يتعلق بالمناسك).
وإذن فقد سجّل المؤلف في رحلته هذه ما ارتسم في مخيلته من مشاعرَ وأحاسيس تجاه الأيام التي قضاها في الحج، وما اشتملت عليه من مظاهر الإيمان والخشوع اللذين اعترياه، فكانت الرحلة مزيجاً وارفاً من المعرفة والثقافة.
ونَجِدُ بشيء من التأمل أن المؤلف اقتبس عنوان الكتاب من العنوان الداخلي (أجنحة الملائكة)، فناسبَ أن يقتبس منها ويعدّل عليها بما يتناسب مع الهدف الذي يرمي إليه، ذلك أن التفكير في نزول الملائكة في مشهد عرفات ذكّره أجنحتها، فيقول: (شعَرتُ كأن المكان مليء بكائنات ليست من البشر، وكأنه تراءى لي أن أجنحة الملائكة ترفرف فوق المكان..).
ثم إن التعديل الذي جرى في العنوان بعد إفادته من العنوان الداخلي، يشير إلى الحالة الإيمانية والعاطفية التي مرّ بها المؤلف في تطوافه، وحواره الداخلي مع نفسه، بأن الأمر لا يتصل بأجنحة الملائكة وحسب، ولكنه شعور إيماني، يحيل إلى أن اقتراب الملائكة، يعني اقتراب الله جل في علاه من عباده، في صعيد عرفات، فيقول: (إن الله تعالى قريب جداً، وتيقنت أنني أرى الملائكة، ففي حضرة الله لا بد من وجود الملائكة..)، ووجد أن إضافة المعية إلى العنوان، تذكّره أن عناية الله تحوطه وتحفظه.
وإذا ما تحدث القارئ عن مضمون كتاب ما بوجه خاص، فإنه سيُضطر إلى أن يحيل إلى ما تضمّنه ذلك الفصل الفلاني دون غيره، ما يعني أهمية ذلك التعيين، فإنه بمنزلة أن يحدّثك أحدهم حديثاً فترشد مستمعكَ إلى قائله الذي نقلتَ عنه.
ويروي المؤلف بعد ارتدائه لباس الإحرام، لحظات من التجلي الإيماني العميق، إذ يقول واصفاً أهمية رحلته تلك: (أنا هنا أسجل تفاصيل رحلتي إلى مكة المكرمة، لأداء فريضة الحج، أهم رحلة قمت بها في حياتي، إلى أقدس مكان على الأرض وأعظم ما رأته عيني).
وحينما حط رحاله بالحرم المكي، وحالما شاهد الكعبة عياناً اعتراه ذهول لم يعهده، يقول: (شعرتُ بمزيج من المشاعر لم أعرف كنهها ولم أُبالِ، لكن عندما وقعت عيناي على الكعبة المشرفة من بعيد، لم أدرِ ماذا حدث، لقد أصابتني حالة من السكون، يا الله.. كأن كل شيء تجمد من حولي، لوهلة توقف الضجيج، وتوقف التدافع أمامي.. شعرت بأنني الكائن الوحيد في هذا المكان وأمامي بيت الله العتيق..).
ويصف سعيد البادي توقفه ودعاءَه الله تعالى في مشعر عرفات، في حالة من اليقين وحسن الظن بالله تعالى، بقوله: (دعوت الرحمن الكريم بكل شيء أريده في الدنيا والآخرة، وأنا موقن بالإجابة، لأن الله تعالى وعدنا بذلك، ولأنني أعرف أنه يراني الآن ولا أراه).
وبعدُ، فإنّ رحلته لم تخلُ من تأملات إيمانية رقيقة المسلك، سجّل فيها المؤلف أحداث رحلته ومشاهداتِه، مستنداً إلى وقائع حقيقية، ومتخذاً من المكان المقدّس موضعاً لعرض مجريات التاريخ وأحداثه، فواءَم بين الرحلة ومكانها ارتيادها الذي قامت عليه.

ذو صلة