في البدء، لم أصدق أمرين:
الأول، أن تقع عيناي -في مروري الأسبوعي المعتاد بمكتبة جرير- على عنوانٍ مثل هذا، في زاويةٍ لم أتوقعها.
كنت أمرّ بين الأرفف دون بحثٍ محدد، حين لمح طرف بصري عنواناً بدا كأنه ينتمي إلى سياقٍ أعرفه.
خطوتُ خطوةً إلى الخلف.
هل حقاً التُقط هذا التركيب، ووُضع على غلاف كتاب؟
(فتنة القول)… العبارة وحدها كفيلة باستدعاء مشاهد من المدونة الإسلامية.
وليقيني أن النقد لا يُبدع إلا حين يصنع مصطلحاته، تحول عدم التصديق إلى خطواتٍ نحو الكاشير.
أخرجت بطاقتي، أدفع ثمنه وأردد العنوان في ذهني: (فتنة القول)
وأثناء انتظاري في الصف قرأت سبب اختيار لوحة الغلاف:
(ما إن فكّرتُ في غلافٍ يلائم كتاباً عنوانه (فتنة القول بالبنيوية) حتى خيّل إليّ شبح الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت!) (1)
خُيّل إليّ أنني أمسكت بطرف الخيط؛ فمن غير بارت يُستدعى عند عتبة عنوان كهذا؟
سألت نفسي:
هل أنا أمام عمل سعودي لا يكتفي بسرد تاريخ الأفكار، بل يحاور الذاكرة، ويصالح الذائقة؟
كتاب لا يرفع البنيوية رايةً نظريةً معلّقة، بل يتعامل معها بوصفها تجربة مشتبكة بالحياة، تستعيد وهج الكتب التي أحببتها: (المستشرق) لتوم ريس، و(النادي) لليو دامرش؛ حيث تتحول السيرة الغيرية إلى نسيجٍ نابض بالذات والزمان والمكان.
كتاب لا يكتفي بتأريخ البنيوية بوصفها نشاطاً فكرياً غايته تحليل النصوص؛ بل يلتقط أنفاسها الأولى لحظة عبورها إلى وعينا العربي.
حين وجدتُ مدخلي
قرأتُ ثلاث روايات لبول أوستر، لم أكرهها، لكنها لم تترك أثراً. كنتُ أستغرب من أصدقاء يضعونه على رأس قائمتهم، وأكتفي بالصمت. مرّت سنوات، ثم صادفت رواية حماقات بروكلين؛ أسرتني من فصلها الأول.
ترجمة أسامة منزلجي، توقيت القراءة، والاستعداد الداخلي؛ اجتمعت لتمنحني إحساساً بأنني أكتشفه من جديد.
أوستر لم يتغير؛ الذي تغيّر هو موقعي. وجدتُ المدخل.
شيءٌ شبيه وقع مع حسين بافقيه.
قرأت له من قبل (عبروا النهر مرتين) و(ما قبل الأدب الحديث). لا نفور، لا إعجاب. مرور.
ثم عثرت على مراجعاته في قاموس الأدب والأدباء في المملكة الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز.
هناك، بدأت نبرته تتضح. أعجبتني تلك المراجعات، لكنها لم تكن كافيةً لفتح الباب.
حتى وصلت إلى فتنة القول بالبنيوية.
ما إن مضيت في صفحاته حتى أدركت أنني أمام كتاب لا يُقرأ بمحاذاة كتاب، بل يتطلب وقفةً وتأملاً.
تركته قائماً وحده، كما ينبغي للكتب الجميلة التي لا يُشرك معها أحدٌ.
ومن هنا، بدأ كل شيء يتغيّر.
تشكيل النصوص، الذي كنت أنفر منه في كتبه السابقة، بدا هنا امتداداً وكمالاً.
بدأت أبطّئ، لا لأني مُبطّأ، بل لأتذوق.
وكم من مرة أعدت قراءة فقرة، لا لأفهمها فحسب، بل لأمرّ على سبكها كما تُعاد مقطوعةٌ موسيقية.
قرأتُ فتنة القول بالبنيوية في رمضان.
وسَبَقه بعامين رمضانٌ آخر، قرأتُ فيه (مهاكاةُ ذي الرُّمة) لحيدر العبدالله.
لا رابطَ بينهما، لكنّ شيئاً في داخلي قرّبهما:
كأنهما شآبيب رحمةٍ هطلتْ في الشهر الكريم.
كلاهما لا يسرد تجربةً من الخارج وحسب، بل من الداخل؛ حيث تتماس التجربة بالتذوق، ويتساوى حضور الكاتب وحضور القارئ.
كلاهما لا يحدثك بما يعرف، بل بما عاش.
لذلك، وجدت نفسي أعيد التفكير في علاقتي مع النقد.
وإذا كان جورج شتاينر يرى أن (الشعور بالحب باعثٌ للنقد الأدبي)(2)
وسمرست مـوم يعدّ النقد (قصة شخصية)(3) فكيف يكون النقد حين يلتقي فيه حبٌّ صافٍ، وقراءةٌ نهمة، وتجربةٌ عريضة؟
بافقيه بدا وكأنه يوازن بين هذه الثلاثة.
يكتب كما يحدّث صديقاً؛ كأن الكتب عنده أحاديث مؤجلة، لا تكتمل إلا حين تُروى لآخر:
(وأنا لا أعرفُ للكتب معنىً دون الحديث عنها)(4)
جذوة القول وبذرة الكتابة
ما إن علمتُ أن الكتاب وُلد من محاضرةٍ أُلقيت في نادي أبها، حتى أحسنتُ الظن.
ثمة شيءٌ لا أكاد أفسره: كل كتابٍ ابتدأ بالصوت لا باليد وحدها، يحتفظ بجذوته. كأن الكلمة، حين تُقال، تحتفظ بجمرتها، وتواصل اشتعالها تحت السطور مهما طال بها الطريق إلى الورق.
ربما لأن الكتب التي وُلدت من الشفاه قبل أن تُسطَر، خفّفت من زوائدها واحتفظت بجوهرها.
وقد قرأتُ في أدب النسيان للويس هايد:
(منذ سنوات عديدة، بينما كنت أقرأ عن الثقافات الشفوية القديمة، حيث كانت الحكمة والتاريخ يعيشان في الألسن بدلاً من الكتب؛ أثارت فضولي ملاحظة قصيرة: قرأت حينئذٍ أن (المجتمعات الشفوية تحافظ على توازنها… من خلال التخلص من الذكريات التي لم تعد لها أهمية حالية). يمكن للنسيان أن يكون أكثر فائدةً من الذاكرة، أو أن الذاكرة تعمل بشكـل أفضل بالتوازي مع النسيان)(5)
ويقول الراوي في قصة بورخيس عن (فونس قويّ الذاكرة):
(كان عاجزاً تقريباً عن تشكيل الأفكار التأمليّة، لأن التفكير يستلزم نسيان الفروقات، والتعميم، والتجريد.)
كأن المجتمعات الشفوية ـ ومنها مجتمعنا ـ بتخفيفها، واختصارها، ونسيانها، كانت تتيح للأفكار أن تنمو وتتشكل.
لعل تلك المحاضرة كانت واحدةً من تلك الهمسات العابرة، كأنها مرت، واختفت، ثم انبعثت من جديد، في هيئة كتاب.
وهذا وحده درسٌ في التكرار والتحوير:
ألّا نكتفي بقول الفكرة، بل نعيد خلقها بأكثر من صورة، نمنحها فرصةً لتصادف أذناً لم تسمعها.
من بنوية إلى بِنيوية.. أثر من نسيهم النقد
من بين ما شدّني أن بافقيه لا يكتفي بتأريخ حضور البنيوية في الساحة الثقافية العربية، بل ينقّب في الأرشيف، الصحف، والمجلات، متتبعاً خيوطها الأولى: من أوصلها؟ كيف فُهمت؟ ولماذا خفتت أسماءٌ أسهمت في ترسيخها، بينما تصدّر آخرون المشهد لمجرد سبقٍ ظاهري؟
لا يُخفي بافقيه انحيازه للعدالة: ينصف من غُفل عنهم أو أُغفلوا، ويسترد فضلاً نُزع من أهله. ومن وجوه هذا الإنصاف مساءلة المصطلح نفسه؛ لا يمر عليه مرور المتفرج، بل يتأمله من جذره، ويتوقف عند ما أُثير حول ترجمته: هل نقول (بِنيوية)؟ أم (بنائية)؟ أم (هيكلية)؟
هل ننقل الكلمة كما هي، أم نعيد توليدها بما يلائم السياق الذي دخلت فيه؟
بالنسبة لبافقيه، الكلمة لا تنفصل عن أفقها الثقافي، وطرح المصطلح في لغتنا لا ينجو من سؤال الأثر، ولا من فخ التساهل في النقل. وكأن تفكيك الكلمة، في ذاته، فعلٌ نقدي، كما قال محمود عبدالشكور:
(في ظني أن تفكيك المصطلح جزء محوري من فكرة النقد، وهو فرض عين في كل عصر وأوان، ليس بهدف الهدم والإزالة بالضرورة، ولكن بمنطق التأمل والاختبار، ومحاولة وضع النقاط على الحروف)(6)
الهزيمة وتصدّع البوصلة
مثلما شكّلت نكسة 1967 لحظةً فارقةً في وعي كاتبي الأحب نجيب محفوظ، ودفعَت بفيلسوفي الأقرب طه عبدالرحمن إلى إعادة النظر في علاقة الفكر بالتراث؛ فقد كانت أيضاً نقطة انعطاف ثقافيّ عربيّ، أيقظت المنهج من مرقده، وأعادت طرح السؤال: كيف نقرأ؟ وبأي عقل نعيد بناء وعينا؟
وسط هذا الاضطراب، كما يروي بافقيه، تسللت البنيوية إلى العالم العربي، وتخلّقت لها مشايعة في الفضاء الثقافي، لا بوصفها تياراً نقدياً فحسب، بل كفتنة فكرية اجتاحت النخبة بألق مصطلحاتها ووعدها بالقطيعة المعرفية مع التراث، مؤكّداً أن: (كان للأدب العربي الحديث، في كل عهدٍ ما يفتنه)(7)
ولا يكتفي بافقيه برصد هذا التحول، بل ينقّب في خلفياته الخفية. لا يعنيه من دوّن المصطلح أولاً، بل من فهمه وجرّبه. مثل السيد ياسين، الذي لم يكن مجرد سابقٍ زمنيّ، بل مستوعباً عميقاً، انتقل من كتابة الصحف إلى الكتابة المؤسِسة، بعد أن تأمل منابعها ولم يكتفِ باستهلاكها.
في هذا السياق، يلتقط بافقيه مفارقةً: الريادة لا تُقاس بالصوت الأعلى، بل بالوعي الأعمق.
ويرصد فجوةً موازية: بين من تهيّؤوا بفعل دراستهم للآداب الفرنسية فكانوا أقرب إلى استقبال التحولات؛ ومن ظلوا على تخوم الأدب العربي، معزولين عن موجات التحول الكبرى.
ويشير إلى استثناء لافت: محمود أمين العالم، الذي رغم فرنسيته وفلسفته، ظل وفياً لأصالة الجذور، ومنفتحاً على ممكنات الحداثة.
هنا، يعيد بافقيه رسم الخريطة الفكرية، لا وفق ضجيج التداول، بل بناءً على الفهم والتمثّل.
وفي النهاية، يفتح سؤالاً لا يُغلق: من أول من حمل بذرة البنيوية إلى العرب؟
لا أحد يعرف على وجه اليقين. وربما لا حاجة إلى معرفة ذلك، ما دامت البذرة قد نمت، ولا يزال السؤال يثمر، كلما ظننا أننا بلغنا جواباً.
الاقتراب من الجذور
أتيتُ من حقلٍ شرعيّ، تشبّعت فيه بفكرة (التخلية قبل التحلية)، ولم أنخرط في نادٍ أدبي أو مجموعةٍ ثقافية.
كانت القراءة الحرة نبعي الأول، أسبح عبرها إلى العوالم، أصقل ذائقتي بعيداً عن القوالب.
هذه العزلة، وإن حفِظت لي صفاء التلقّي؛ أبقتني غريباً عن سياقي المحلي، كما لو أنني أطلّ عليه من بعيد.
وكأنّ القراءةَ وحدها، مهما اتسعت، لم تعد كافيةً لاستعادةِ الملامح، كان لا بدّ أن أمشي على أرض واقعي، وأُصغي إلى حكايةٍ تُشبهني.
عندها، نهض في داخلي صوتٌ يقول: لا عودة إلى الذات إلا عبر الجذور.
كان كتاب الأساطير الشعبية من قلب الجزيرة العربية لعبدالكريم الجهيمان، وكتاب الخبر والعيان في تاريخ نجد لخالد الفرج؛ بوابتي لهذه العودة. كتابان لم يقدّما لي معلومةً بقدر ما أزاحا عني طبقةً من الغربة، غربلا كثيراً من التصورات، وأعادا وصل الشعور بالمكان والناس.
ومن هنا بدأت رحلة تتبع المؤلفات السعودية، محاولاً التحصُّن بشرطيّ يحيى حقي: الذوق والنزاهة.
وتزامناً مع اليوم الوطني السعودي السادس والتسعين، نشرتُ قائمةً بعنوان (96) كتاباً جميلاً من السعودية في حسابي على X.
أدرجتُ فيها بعض الأسماء احتراماً لجهودهم، حتى لو لم تجد ذائقتي امتدادها في أعمالهم. كنتُ أتمناهم جسوراً بين جيلٍ مضى، وجيلٍ يتلمّس طريقه.
وفي غمرة هذا التتبع، مر بي مشهدٌ بعيد المسافة، قريب المساس:
من سيرة الراقصة الأمريكية إيزادورا دانكن، والتي حرّرها روبرت غوتليب صاحب الكتاب الفاتن (القارئ النهم).
تحكي دانكن في كتابها (حياتي) كيف لاحقها ناقدٌ بالهجوم بلا هوادة، فلما دعته لمحاضرةٍ تشرح فيها فلسفتها في الرقص، اكتشفت أنه أصمّ:
كان هناك ناقد في برلين طاردني بإهاناته، ومن بين أشياء أخرى قال إنني لا أتمتع بأذن موسيقية لدرجة عميقة. وكتبت له ذات يوم أُناشده أن يأتي لرؤيتي، وأنني سأقنعه بما اقترفه من أخطاء بحقي. حضر الناقد، وبمجرد أن جلس على مائدة الشاي ألقيت عليه محاضرة على مدى ساعة ونصف عن نظرياتي في الحركات المرئية المستمدة من الموسيقى. لاحظت أنه بدا ملولاً ومتبلد الحس لأبعد مدى، لكن فزعي كان عندما أخرج من جيبه سماعة الصم، وأخبرني أنه أصم تماماً، وأنه بالكاد -حتى مع السماعة- يمكنه سماع الأوركسترا، رغم أنه جلس في الصف الأول من المسرح!(8)
لم أضحك فحسب، بل خُيّل إليّ نقادٌ يجلسون في مخيالٍ صَاغه قلقُ المكانة، وكأنهم نُصِّبوا حرّاساً على بوابة الماضي، يُغلقونها كلما اقترب نصّ من الحاضر. لا يكتبون ليضيئوا، بل ليتأكدوا أن أحداً لم يطرق باباً لم يطرقوه من قبل، حتى غدت وظيفتهم النقدية مجرد حراسةٍ لطقوسٍ بائدة.
كان هذا المشهد كافياً ليحرّضني على مراجعة موقفي من بعض الأسماء النقدية المحلية،
كم كنتُ أحملهم على محمل الجد، قبل أن أرى أن كثيراً مما يُقال اليوم لا يصدر عن ذائقةٍ حيّة أو تجربةٍ متجددة، بل عن اجترار قراءات توقفت منذ كانوا حكّاماً في لجان جوائز.
نصوصٌ سعودية رفيعة كُتبت خلال العقد الأخير، مرّت دون أن تثير انتباههم؛ لا لنقصٍ فيها، بل لأنها لم تمرّ عبرهم، أو لأن أصحابها لم يملكوا من الصخب ما يكفي ليُعيد الناقد إلى دائرة الضوء.
تذكرتُ ما كتبه عزيز محمد في مقالته (لماذا لا يقبل الناقد العربي الانتقاد):
(لطالما حاول النقد التقليدي المحافظة على هذه العلاقة الأبوية مع المشهد الأدبي، أولاً: لأنها تسهّل مهمته، ولا تكلفه تعلّم أدوات نقد وأنواعَ تَلقٍّ جديدة، وثانياً: لأن هذه العلاقة الأبوية تحفَظ له وصايته، فتبدأ الكتابة منه وإليه تنتهي)(9)
فلا غرابة أن يلوذ بعض النقد اليوم بظلّ معاركه القديمة، غبارُها يعمي بصره عن نصٍّ يُولد أمامه.
ومع ذلك، لم يتزحزح يقيني.
كنتُ ولا أزال أؤمن أن (الذوق المعلّل)(10) لا يموت. إنه يعمل، ويتخلق كلما كتب أحدهم نصاً يستحق القراءة.
ربما كان جوليان جراك هو الأقرب تعبيراً عن هذا المعنى:
(ما أريده من أي ناقد أدبي (ونادراً ما ينجح الناقد في ذلك) هو أن يخبرني لماذا تمنحني قراءة كتابٍ ما متعة لا تدانيها متعة أخرى… كل ما أبتغيه من أي نقاش أدبي نقدي هو تلك النبرة الفريدة التي تُشعرني أنك وقعت في هوى العمل مثلما وقعتُ أنا في هواه. كل ما أريده منك هو توكيد أنك -كطرف ثالث في العملية الإبداعية- بادلت النص الأدبي حباً بحب).
لا أتوقف عن البحث عن أولئك الذين يكتبون ليكتشفوا:
حسين بافقيه، عدي الحربش، حيدر العبدالله، أحمد الحقيل، عزيز محمد... أولئك الذين تتكئ كتاباتهم على عمرٍ طويلٍ من القراءة والذائقة والتجربة، وتترك الجمال يتكشّف وحده.
ولأن هذا الإيمان لا ينبت في فراغ، بل له سُلالة؛ أدركت أن شكواي من انحسارِ نقّاد الجسور ليست صرخة معاصرة، بل امتداد لصوتٍ قديم عبّر عنه هارولد بلوم:
(إنّ النقد الجمالي يعيدنا إلى استقلالية الأدب المتخيل، وسيادة الروح الوحيدة، وإلى القارئ، ليس بوصفه شخصاً في مجتمع، بل ذاتاً عميقة.
ما يشغلني، هو فرار العديد ممن يشاطرونني المهنة من البعد الجمالي، وبعضهم كان قد بدأ، على الأقل، حياته النقدية بقدرةٍ على تذوق القيمة الجمالية.
والفرار بالنسبة إلى فرويد يُعتبر استعارةً للكبت، وللنسيان اللا إرادي، أو ربما المقصود.
والغاية واضحة بما فيه الكفاية في مسألة فرار أبناء مهنتي: إنهم يهدّئون إثماً منزاحاً.
على أن النسيان، في سياق جمالي، مدمّر، لأن التذوق في النقد يعتمد دائماً على الذاكرة).(11)
وهكذا، ما دامت هناك ذاكرة حيّة، وقارئ يقترب من النص بسذاجةٍ نبيلة وحساسية –كما وصف أورهان باموق الكاتب الجيد– فثمّة نقدٌ يولد؛ لا ليفرض وصاية، بل ليُشير ويُرشّح.
وأما أولئك الذين أعيتهم حرارة التذوّق، وتراكمت على نبرتهم طبقاتُ الادّعاء،
فلا أسألهم عن نصٍ أحبّوه، بل أكتفي بسؤال فولتير:
(كان الناقدون في زمن لاهارب نحويين، وفي أيام سنت بيف وتين مؤرخين، فمتى يصبحون فنانين حقاً وصدقاً؟).12
ثمرات المنمنة.. درس الكتب الأصيلة
(عندما أقرأ للأستاذ حسين محمد بافقيه، أشعر أنّه إنسان صادق في حياته. ذلك الصدق الذي يستدعي المتاعب) بسام الهويمل
في موسمه الثالث من برنامج (سين)، زار أحمد الشقيري إحدى مزارع البن في جيزان. وأثناء جولانه بين الأشجار، وقف الخبير فيصل الريثي، وأطلق تنهيدةً، ثم لفظ الكلمة كمن يزيح سرّاً قديماً: (مَنْمَنَة)، سأله الشقيري عن معناها، فأجابه: شجرة البن الصخري لا تمنحك ثمرها إلا إذا مننتَ عليها؛ تمنّ عليها بالعناية والصبر، فتمنّ عليك بثمارها.
تأملتُ هذا المشهد، وأدركت أن الكتب الأصيلة تشبه أشجار البن الصخري: لا تهب فتنتها إلا لمن يمنّ عليها بالصدق والمصابرة. الكتب العظيمة لا تُجمع، ولا تُطبخ على عجل، بل تنضج على نارٍ هادئة من القراءة العميقة، ورحيق التجربة، والمكابدة في تلمّس طبقات المعنى.
تذكرت ذلك وأنا أطوي الصفحات الأخيرة من (فتنة القول بالبنيوية)، كتابٌ عاملني كما يعامل البن الصخري مزارعه: لم يفتح كنوزه منذ الوهلة الأولى، ولم يكشف فتنته إلا عبر مشقة الكتابة.
يراودني أن فتنة القول بالبنيوية كُتب بروحين:
الأولى، تمتدّ من افتتاحيته حتى فصل (طوفان البنيوية)، وكأنها سدادٌ لدَين قديم لذائقةٍ تشكّك فيها، رغم أنها وُهِبت له منذ زمن. ففي عام 1408هـ، طرب لاستهلال الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه مشكلة البنية، لكن ذلك الطرب النقيّ لم يكن كافياً ليقنعه بأن يثق تماماً بما أحسّه. بدا كأن ثمة صراعاً بين الذائقة التي يعرفها، والصوت الثقافي الذي أحاطه، كأن عليه أن يعتذر لذائقته، أو يعيد الاعتبار لها في شكل كتاب.
أما الروح الثانية، فتنبعث في الفصول اللاحقة، حين يتخفف النص من العبء، ويكتب بافقيه بألفةٍ أكثر؛ يبتسم هنا، ويشاكس هناك، حتى تحوّلت القراءة إلى بهجة لا تنقضي.
منذ سمعته في بودكاست إثراء يتمنى أن يكتب كتاباً يمنح قارئه متعةً تُشبه ما منحه إيّاه (مقهى الوجودية) لسارة بكويل؛ وأنا أرى أمنيته تتحقّق سطراً بعد سطر، بل أزعم أنه، بطريقته التي لا تُشبه إلا ذاته، كتبَ كتاباً لا يقل عنه صدقاً وجمالاً.
(فتنة القول بالبنيوية) آصرةٌ روحية بين قارئٍ نهمٍ وذاكرة الحداثة النقدية العربية. وامتدادٌ لاشتغالات حسين بافقيه الطويلة في النقد الأدبي، ونقد النقد، والتاريخ الثقافي السعودي والعربي.
قد يخطر لي أن الدافع لكتابة هذه المراجعة هو رغبة طفولية في أن أقرن اسمي بعنوان كتابٍ شدّني جماله وغلافه، أو أن أبثّ بعض الآراء لعلها تجد صدىً لدى قارئ يشاركني؛ لكن، في العمق، كان ثمة دافع: ألّا أكبح انفعالي، ولا أتظاهر بالرصانة الباردة. أن أكتب كما شعرت، دون أن أخشى تصنيفاً، أو أتمنع عن التصريح بأن هذا الكتاب عظيم.
لنعش مراحل تكويننا في طريق اكتشاف الفنون، ولنتحرر من كبح مشاعرنا أمام عملٍ هزّنا، حتى لا نوصف بالمبالغين، أو خوفاً من تغيّر آرائنا مع الزمن. لأننا إن فعلنا، سنفقد أحد الأمور الجوهرية في تاريخنا الشخصي: فطرية الدهشة؛ تلك الشعلة التي تضيء الطريق، وتفتحُ باباً إلى اتزانٍ لا يولد إلّا من صدق الانفعال والتجرِبة.
1 - حسين محمد بافقيه، فتنة القول بالبنيوية.
2 - جورج شتاينر، بين تولستوي ودستويفسكي، ترجمة: د.أحمد حمدي محمود، الجزء الأول.
3 - سمرست موم، عصارة الأيام، ترجمة: د.حسام الخطيب.
4 - حسين محمد بافقيه، حياة واحدة لا تكفي: ذكريات أدبية وفصول ثقافية عن القراءة والكتب.
5 - لويس هايد، أدب النسيان: ثقافة تجاوز الماضي، ترجمة: جوهر عبدالمولى.
6 - محمود عبدالشكور، إلى صديقي الشاب: أوهام وحقائق الفن والكتابة.
7 - حسين محمد بافقيه، فتنة القول بالبنيوية.
8 - إيزادورا دونكان، حياتي، ترجمة: مدحت طه.
9 - عزيز محمد، لماذا لا يقبل الناقد العربي الانتقاد، نشرة إلخ، ثمانية.
10 - محمد مندور: النقد: ذوقٌ معلّل!، النقد المنهجي عند العرب، نقلاًعن فتنة القول بالبنيوية ص 177
11 - هارولد بلوم، التقليد الأدبي الغربي: مدرسة العصور وكُتبها، ترجمة: د.عابد إسماعيل.
12 - ستانلي هايمن، النقد الأدبي الحديث ومدارسه الحديثة، نقلاً عن فتنة القول بالبنيوية ص 16