مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

دور المكتبات في إنتاج ونشر وإتاحة الموسوعات مكتبة الإسكندرية مثالاً

ترتبط الصورة الذهنية لدينا للموسوعات بشكل سلاسل الكتب ذات الطباعة الفاخرة والقيمة، عالية السعر، والمتواجدة بمكتبات كبار الشخصيات في المجتمع، أو المؤسسات والهيئات المتخصصة، أو المكتبات التي تلعب دوراً كبيراً في خدمة جمهور الطلبة والباحثين وتدعم إتاحة المصادر التي يصعب على الكثير منهم الحصول عليها خارج المكتبة.
تعتمد الميزة التسويقية للموسوعات على دقة المعلومات فيها وتنوع موضوعاتها وسهولة فهرستها وتصنيفها مما يسهل من استرجاع المعلومات بها، فالوقت والمجهود المبذولان لإنتاج الموسوعات أعظم بكثير ولا يقارن بأي منتج بحثي آخر، بداية من التخطيط والإعداد لإنتاج مشروع الموسوعة مروراً بمرحلة جمع المعلومات ومرحلة الكتابة والتحرير ومرحلة النشر والتوزيع، وفي النهاية ولتحقيق استدامة الموسوعة، لا ننسى مرحلة التحديث والمتابعة.
وتعزز من قيمة الموسوعة، الجهات والمؤسسات التي تنتج الموسوعات والتي أثبتت التزامها بمعايير الجودة في تحديد فرق العمل والخبراء والمتخصصين ونظام العمل الذي يدير مشروع الموسوعة.
وتشهد صناعة الموسوعات الكثير من التحديات من أهمها: تكلفتها العالية، وطول مدة إنتاجها، ومحدودية أماكن التخزين، وصعوبة مواكبة تحديثات المحتوى. وقد أثرت الطفرة التكنولوجية التي حدثت في السنوات الأخيرة والتحول الرقمي، بشكل إيجابي كبير على هذه الصناعة، وشهدت تطوراً مهماً لم يؤد فقط إلى استمرار صناعة الموسوعات ولكن أيضاً إلى ازدهار ملحوظ في مبيعات واشتراكات الموسوعات الرقمية.
فالموسوعات الرقمية تفتح آفاقاً أكبر لسوق المستخدمين حيث لا ترتبط إتاحتها بنطاق جغرافي محدود يتطلب مراحل شحن طويلة ومكلفة تضيف إلى التكلفة الأساسية لإنتاج الموسوعة، كما تسهل من عملية البحث والاسترجاع للمعلومات من خلال محركات البحث وبرامج الذكاء الاصطناعي، وأيضاً تسهل من عملية التحديث المستمر والسريع للمعلومات ومحتوى الموسوعات، بالإضافة إلى سهولة إشراك مؤسسات وخبراء من عدة دول في إنتاج الموسوعة بما يوسع من نطاق المصادر وكفاءة الخبراء المشاركين.
وقد توجهت الكثير من الجهات إلى تحويل موسوعاتها بصورة كاملة إلى الصورة الرقمية مثل: بريتانيكا والموسوعة العربية العالمية ولكن هناك من أصر على الاحتفاظ بالصورة الورقية للموسوعات، كما أتاح البعض الموسوعات بالصورتين الورقية والرقمية وهو من وجهة نظري أفضل حل حيث ينحصر العدد المطبوع على طلبات الشراء الفعلية مما يضبط التكلفة وتجنب مشاكل التخزين، وفي نفس الوقت يتاح بصورة رقمية محدثة بصورة دائمة وسريعة تزيد من دقة المعلومات وتطورها وموثوقيتها.
على الرغم من كل ما ذكر فلا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه إمكانية الاعتماد الكلي على الموسوعات الرقمية ومنها على سبيل المثال الفجوة الرقمية في بعض الدول، كما أن تكلفة الإنتاج وصناعة وتحديث المحتوى لا تزال مكلفة للغاية، وأيضاً هناك تكلفة تكنولوجية مرتبطة بإدارة نظم التشغيل ومنصات العرض والخوادم والدعم الفني وغيرها من مصاريف تشغيل وصيانة ومتابعة المحتوى الرقمي العالية والمتطورة بصورة مستمرة وسريعة.
وتلعب المكتبات دوراً كبيراً في إنتاج ونشر الموسوعات سواءً الورقية أو الرقمية. فبالنسبة لجمهور المكتبات من الباحثين، فإن الموسوعات تُعد من أكثر المصادر الموثوقة والمكتبات تحرص دائماً على اختيار أفضل الموسوعات من حيث المحتوى والتنوع والجودة مما يعزز من كفاءة الباحثين والأبحاث التي يقدمونها، كما تقوم المكتبات بتوفير الموسوعات والأجهزة وشبكات الإنترنت للباحثين غير القادرين على الحصول على هذه المصادر والإمكانيات في مكان آخر، وتدعم المكتبات أيضاً إمكانية التنسيق وإتاحة المصادر من المكتبات الأخرى حول العالم.
يساعد أيضاً أخصائي المكتبات في عملية البحث الببليوغرافي وتدريب الباحثين المتاح في بعض المكتبات أو من خلال منصات التعليم الإلكتروني المتاحة مجاناً بمكتبات مثل مكتبة الإسكندرية على سبيل المثال.
ولا ننسى مسؤولية المكتبات في متابعة حقوق الملكية الفكرية والاستخدام العادل للموسوعات بما يضمن حقوق المؤلفين والمحررين.
وقد لاحظنا انخفاضاً ملحوظاً في الاستعانة بالموسوعات الورقية بمكتبة الإسكندرية في السنوات الأخيرة، وقد اقتصر غالباً على الموسوعات التي تحتوي على وثائق تاريخية وتراثية تعكس معرفة وممارسات مرتبطة بحقبة زمنية معينة، كما أن الموسوعات الرقمية تواجه تحديات مرتبطة بكفاءة الإنترنت التي تعيق الاستفادة المثلى بالموسوعات والمصادر الرقمية، بالإضافة إلى صعوبة استمرار المكتبات في الاشتراكات بقواعد البيانات، نظراً لارتفاع التكلفة الناجمة عن التضخم وارتفاع العملة الأجنبية المحددة لأسعار أكثر هذه المصادر الإلكترونية.
تلعب المكتبات أيضاً دوراً كبيراً في إنتاج الموسوعات بمراحله المختلفة وذلك من خلال إتاحة نماذج ودراسات وممارسات مماثلة يمكن الاستعانة بها عند التخطيط والإعداد للموسوعة، ثم إتاحة المصادر للباحثين المشاركين في تجميع وكتابة المحتوى، وأيضاً توفير معايير التحرير الأكاديمي ودلائل الاستشهاد المرجعي وفحص نسب الانتحال العلمي من خلال برامج كشف نسب الاقتباس وغيرها من الخدمات المرجعية والبحثية والتقنية الأخرى بالمكتبات.
تقوم بعض المكتبات أيضاً بإدارة وإنتاج مشاريع موسوعية وتكون مسؤولة عن إنتاجها وطباعتها/ إدارة المنصة الرقمية للموسوعة ونشرها وتحديثها.
تُعد الموسوعات العربية أقل تطوراً مقارنة بالموسوعات العالمية من حيث قلة المحتوى العربي وقلة التنوع في الموضوعات، حيث اشتهرت الموسوعات العربية بمواضيع أدبية ودينية أكثر من المواضيع العلمية. وهناك مساع كبيرة من بعض المؤسسات العربية لتعزيز المحتوى العربي من خلال مشاريع الترجمة والتعريب وكذلك مشاريع التوثيق التراثي العربي وغيرها من المبادرات الوطنية والإقليمية التي تدعم المحتوى العربي.
وهناك مشاريع موسوعية عربية بارزة مثل الموسوعة العربية العالمية التي تم إعدادها استناداً على موسوعة أمريكانا مع عمل تعديلات تناسب القارئ العربي، الموسوعة الشعرية، الموسوعة الفقهية الكويتية، موسوعة الملك عبدالعزيز العربية للمحتوى الصحي.
ولمكتبة الإسكندرية دور رائد في إنتاج موسوعات علمية وتراثية مهمة ومن أهمها:
موسوعة الحياة
موسوعة الحياة هو مشروع دولي، ويعد جهداً تعاونياً يضم عشرات الآلاف من الأشخاص ذوي الخبرة والمعرفة حول العالم. يهدف المشروع إلى خلق مصدر مرجعي وقاعدة بيانات على شبكة الإنترنت لجمع وتوثيق معلومات عن كافة أنواع الكائنات الحية على الأرض، من نباتات وحيوانات وكائنات دقيقة، يقدر عددها بنحو مليون و900 ألف نوع، وإتاحتها مجاناً للعلماء والباحثين والطلبة والمعلمين والجمهور العام. وتعد مكتبة الإسكندرية شريكاً وثيقاً في المشروع، حيث ساهمت بخبرتها التقنية في تدويل نظام موسوعة الحياة وإعادة بناء بنيته التحتية لاستخدامه باللغات الإنجليزية والعربية والإسبانية. وتعمل مكتبة الإسكندرية حالياً على إنشاء موسوعة الحياة باللغة العربية لتكون مصدراً علمياً غنياً للتنوع الحيوي، وهو ما يعد خطوة كبيرة في مواجهة ندرة المحتوى العلمي العربي على شبكة الإنترنت، مما يلبى احتياجات الكثير من العلماء والطلبة والجمهور العربي بشكل عام. ولا يقتصر دور المكتبة على الترجمة فقط، بل يشمل أيضاً إتاحة الأدوات اللازمة للعلماء العرب لإضافة محتوى جديد إلى موسوعة الحياة يضم أنواعاً من الكائنات الحية المستوطنة في المنطقة العربية كجزء من الأرض، ونشر الأبحاث والمقالات والصور وغيرها عن تلك الكائنات.
موسوعة المزارات الإسلامية والآثار العربية في مصر والقاهرة المعزية
أصدرت مكتبة الإسكندرية موسوعة (المزارات الإسلامية والآثار العربية في مصر والقاهرة المعزية) من تأليف حسن قاسم في ثمانية مجلدات، وتحقيق نخبة من المحققين المتميزين.
تُعَدُّ هذه الموسوعة أوفى مصدر لتاريخ مساجد القاهرة والقطر المصري، ومزاراتها ومشاهدها، وخططها القديمة والحديثة، ومعالمها التاريخية والأثرية، وتراجم علمائها وملوكها وأمرائها، وأنساب أُسَرِها، نتيجة بحث ومشاهدات واكتشافات وتحقيقات علمية، وقف عليها المؤلف ورتَّبها ودوَّنها في أعوام وسنين طويلة. وتتناول تاريخ التراث المعماري الإسلامي في مصر منذ الفتح الإسلامي حتى العصر الحديث، عبر عصور الفتوح الإسلامية الأولى ثم الطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، إلى عصر أسرة محمد علي، حتى أواخر الستينات من القرن الماضي.
في النهاية نتطلع إلى مشاركات وتعاون أكبر بين المؤسسات الثقافية العربية التي تهتم بتوثيق المعرفة العربية وتعزيز المحتوى العربي من خلال مصادر معرفية موثوقة ومن أهمها الموسوعات العربية، وأدعو إلى التوسع في عقد شراكات تقدم للمجتمع العربي والعالم موسوعات عربية منافسة تقدم مواد ومصادر ترسخ الثقافة والتراث العربي وتشارك برؤية عربية في مجالات البحث المختلفة.
ومن المهم أيضاً العمل على تطوير أدوات ونظم إنتاج الموسوعات واستخدام التطبيقات والبرامج الحديثة التي تساعد في الحصول على كم أكبر من المصادر وتحليل المعلومات في وقت قصير ومنجز وذلك باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بصورة فعالة وسليمة، وفي هذا النطاق يجب التأكيد على أهمية تدريب نماذج التعلم الآلي اعتماداً على المحتوى المعرفي العربي الموثوق، وتشجيع المجتمعات العربية على المشاركة في المحتوى الرقمي المفتوح بأعمال معرفية عربية.

ذو صلة