مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

الموسوعـة وخطر التهجين

يتواصل الصراع بين الحاضر والماضي، بين ماض يحمل الكثير من الذكريات والأفكار والإنجازات، حضارات عريقة، ومعالم مشيدة، تاريخ مدون وآخر محفوظ ومكتوب ومسجل، والتي تعني معلومات، أما الحاضر فهو الذي نعيشه بكل ما يحمل من زخم وتنوع وتصرفات وأفعال ينتج عنها عمل وبحوث ودراسات، وعند الجمع بين الماضي والحاضر نجد أنفسنا أمام كتلة من المعلومات المتنوعة والمختلفة وهي التي تشكل العلوم، وقد طفت إلى السطح فكرة القديم والجديد والتخلف والتطور وكذا التقليدي والحديث، ومن بينها الصراع بين الورق والرقمنة، أو الكتاب الورقي والإلكتروني وكل له أنصاره ومؤيدوه، وهي طرق ووسائل كلها لحفظ العلم والارتقاء به ولتزويد البشرية بالمعلومات، فبعد الكتب والمجلات والمجلدات والمدونات، جاءت التكنولوجيا الحديثة بوسائل رقمية متطورة كالموسوعات وأدوات لحفظها وترويجها وجمعها، لكن لكل منها سلبيات وإيجابيات، وتحديات وتحولات جعلت العالم والمتهمين بها أمام العديد من التساؤلات والاستفهامات.
الموسوعات جعلت الواقع القديم يصطدم بالتكنولوجيا الحديثة
بالعودة إلى زمن الموسوعات المختلفة التي ظهرت منذ عشرات أو مئات السنوات فإن الحديث عنها له تفاصيل كثيرة، ولعل من بينها أن الموسوعات لها نكهة مميزة وطريقة جذابة في زمنها، إذ إن الكثير منها ظهر في زمن لا تتوافر فيه الإنترنت بالشكل الذي توفرت فيه اليوم حجماً، وكماً، ونوعاً، وكانت الملاذ الآمن والكبير لأهل العلم؛ طلبة ودكاترة ومثقفين وباحثين عن شغف المعلومة والمتعة، وهي التي جاءت بعد عصور طويلة كانت فيها الكتب والمجلدات والمدونات والمخطوطات هي السبيل إلى العلم حفظاً ودراسة، والتي يفوح منها عبق التاريخ الطويل والقديم أو حتى الحديث، لكن الموسوعات جعلت الواقع القديم يصطدم بالتكنولوجيا الحديثة حين تفوقت عليه بالسرعة وحجم سعة الحفظ ضمن ما يسمى بالقرص المرن أو القرص المضغوط ومنه إلى الذاكرة المرنة وغيرها من أدوات الحفظ التي لاتزال تتطور بشكل مخيف ورهيب، وصلت اليوم إلى ما يسمى برقمنة كل ما هو ورقي منه الموسوعات، ما جعل الهوة بين دوائر المعلومات الورقية والرقمية تتسع وكل منها تواجه تحديات مختلفة عن الأخرى، الورقية مواجهة التلف والاحتراق والأوراق البالية، والرقمية تواجه سلبيات أدوات الحفظ والصدمات والفيروسات والتلف وغيره.
عند التفصيل في طريقة توفير وحفظ ونشر المعلومات التقليدية والأكاديمية مقارنة بالرقمية فإن الأولى متوفرة بين هياكل المعاهد والجامعات والمدارس وغيرها على ألسن المعلمين والمدرسين والدكاترة، وتنتقل بينهم بطرق التدريس المعروفة، والمتربطة برقم محدد وجدول محدد، أما إذا قلنا الرقمية فهي المتوفرة في أي وقت وحين وتحت أي ظرف كان يمكنك الاستفادة منها والعثور عليها وبكم هائل كبير متنوع يمنحك الكثير من الخيارات.
في حين أن الموسوعات المتوفرة على الشبكة العنكبوتية تواجه هي بدورها تحدياً آخر جديداً مع ظهور الذكاء الاصطناعي الذي لايزال في بداياته وهو الذي يمنحك الإجابة عن أي تساؤل في أي وقت وحين وتحت أي ظرف، وهو ما أصبح يهدد الموسوعات، لكن ليس بنفس الدقة والمصداقية والثقة التي يبحث عنها البشر، فبمجرد الضرب على لوحة المفاتيح على صفحة أحد مخرجات البحث تتحصل على كم من المعلومات والإجابات المختلفة والاحتمالات تقدم الحلول التي تبحث عنها، لكن جعلت محركات البحث كبوابة لولوج مغارة تحمل الكثير من المعلومات، فهي التي تسهل عليك الوصول إليها ومنها تعد وسيلة للتوصل إلى أي استفهام يدور بذهنك.
الموسوعة العربية ستحتل العالم كماً ونوعاً وعدداً
رغم غزارة المعلومات المتوفرة في عالم اليوم من مختلف القارات الخمس، ووجود موسوعات بكل لغات العالم وثقافته، تحتل الموسوعة العربية مكانة مهمة، بالنظر إلى ما تتوافر عليه من معلومات في كل الاختصاصات والتوجهات والمناهج، تتنوع حسب مجالات الحياة (ثقافة، علوم، تاريخ، حضارات ومواقع أثرية ودينية وغيرها..) لا يمكن حصرها، كما يمكن أن نذكر منها (الموسوعة العربية الشاملة) و(ويكيبيديا الموسوعة الحرة) وموسوعات عربية كثيرة حتى في مجالات الأدبي والشعر والعلوم المختلفة، لكن يبقى الرقم غير كاف، إذ لايزال كثير منها قيد المخطوطات والحفظ وعلى الرفوف ينتظر التدوين والتصفيف والترقيم إلى مرحلة الرقمنة لتصبح متاحة للجميع في أي بقعة على سطح الأرض، فإذا تم ذلك ستحتل الموسوعة العربية العالم كماً ونوعاً وعدداً في مختلف المجالات وتكشف للعالم حقيقة العلم والثقافة الواسعة في شتى المجالات.
من يحمي الموسوعات أمام خطر تهجين هويتها؟
إن الإنسان اليوم يصبح ويمسي في بحر من المعلومات المتهاطلة عليه من كل حدب وصوب تحت غزارة لا يمكن مجاراتها، معلومات مختلفة من مصادر كثيرة، وفي كثير من الأحيان لا مصدر لها، وقد يجهل من نشرها أو أطلقها لأول مرة، من محركات البحث إلى الذكاء الاصطناعي وملايين المواقع الإلكترونية، ومع تجدد الحياة بين اليوم والآخر، فإن الموسوعات سواء الورقية أو الرقمية تبقى مطالبة بتقديم دورها الفعال والريادي بشكل يضمن الدقة والمصداقية والموضوعية، وهذا يعني أنها ستكون ضد سيل جارف مما ذكر، وهو التحدي الأكبر لها، إذ تبقى هذه المواصفات نسبية، لأنها أمام عملية معقدة تحتاج إلى الكثير من الحماية والمتابعة من طرف الجميع وبالخصوص أهل الاختصاص كل في مجاله، تسعى لوضع أطر ونظم مخصصة ومؤطرة لضمان المصداقية والشفافية وعدم السماح لأي كان النشر أو إضافة المعلومات أو حتى استخدامها، كما أن من يحتاجون إلى استعمال محتوى المعلومات مطالبون بعدم استخدام أي موسوعة كانت وإنما يجب التحري والتحقق من دقتها ومصداقيتها. أما إذا كان الوضع أمام الذكاء الاصطناعي فهذا تحد آخر لأن المختصين في هذا المجال أكدوا من خلال العديد من البحوث والمستجدات البحثية أن الذكاء الاصطناعي لايزال في بدايته بحيث لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كلي ودقيق، إذ إن المعلومات التي يقدمها ناتج عملية بحث مما توافرت عليه الشبكة العنكبوتية، وهو ما يعيدنا إلى التشكيك في دقة المعلومات التي تحصل عليها، إذ إنها غير خاضعة لمعايير ومقاييس دقيقة وعملية وثابتة، فقد تكون موسوعات مغشوشة أو تتوافر على حائط بيانات يمكن لأي كان أن يضيف عليها معلومات وهو ما يزيد الشكوك في محتواها، رغم نجاحه في العديد من العمليات وبعض الإشكالات المطروحة عليه كقاعدة بيانية.

ذو صلة