مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

تجربتي مع التحول الرقمي للموسوعة البريطانية

منذ عام 1768، كانت نسخة 2010 من الطبعة الخامسة عشرة من موسوعة بريتانيكا Encyclopedia Britannica، هي آخر طبعة ورقية، ومنذ عام 2016، بدأ نشرها موسوعة تفاعلية على الإنترنت.
هذه المعلومة مبذولة في المصادر التي تهتم بالمعرفة، ولكنها بالنسبة لي تجربة خاصة بحكم تخصصي في النشر الإلكتروني والإعلام الرقمي ومتابعتي للتطورات في هذا المجال.
علاقتي مع الموسوعة البريطانية بدأت بطبيعة الحال من خلال مجلداتها الورقية، فقد ظلت طويلاً مصدراً أساسياً للمعلومات في كافة أوجه المعرفة، بل كانت زينة المكتبات العامة بمجلداتها التي تتجاوز الثلاثين. الآن مع كتابة هذا المقال عادت بي الذاكرة ساعياً بشكل دائم للحصول على المعلومات من هذا العدد الكبير من المجلدات التي أتركها بعد الحصول على ما أريد في طاولة القراءة، ليعيدها أمين المكتبة لمكانها بنفس الترتيب.
ثم إنني كنت متابعاً على مراحل التحول الرقمي لهذه الموسوعة الموثوقة، متابعة كانت خليطاً بين رفض التحول من الورق الذي تعودت عليه وجيلي، وبين القبول بالنسخة الإلكترونية على مضض.
الطريف أنني في مرحلة ما كنت قد حصلت على نسخة ورقية بمجلداتها المتعددة التي أخذت حيزاً في مكتبتي، وظلت طويلاً ملكة المكتبة بلا منازع برغم تحولها الرقمي، وكأنني أحتفظ بجزء عزيز من الماضي، يمكن أن تصفه بالحنين إلى أيام الورق ورائحته وربما طعمه، فقد كنا نغذي عقولنا به.
خلال بدايات التحول صدرت نسخ منها على أقراص مضغوطة (CD-ROM). ووفق موقعها في شبكة الإنترنت: في عام 1981، وبموجب اتفاقية مع Mead Data Central، صممت أول نسخة رقمية من الموسوعة لخدمة LexisNexis. وفي أوائل التسعينات، أُتيحت بريتانيكا على عدد من المنتجات القائمة على الأقراص المضغوطة، بما في ذلك فهرس بريتانيكا الإلكتروني وأقراص بريتانيكا المضغوطة (التي توفر نصاً وقاموساً، إلى جانب برنامج استرجاع خاص، على قرص واحد).
في عام 1995، صدر قرص مضغوط مزدوج القرص، يضم رسوماً توضيحية وصوراً، وأُضيفت الوسائط المتعددة، بما في ذلك مقاطع الفيديو والرسوم المتحركة والصوت في عام 1997. في البداية، كانت تكلفة هذه المنتجات الإلكترونية مماثلة لتكلفة الموسوعة المطبوعة، مما أدى إلى مبيعات فاترة نسبياً، ومع ذلك، على مر السنين، انخفض سعر منتجات الأقراص المضغوطة وإصدارات DVD اللاحقة، التي ظهرت لأول مرة في عام 1999، بشكل كبير.
عندما أصبح سعر الأقراص في المتناول، حصلت على نسخة من هذا النوع، اشتريتها خلال زيارة خارجية. هذه النسخة سهلت عملي كثيراً ونقلتني نوعياً ونفسياً من أيام الورق إلى بيئة جديدة كلياً، بيئة تفاعلية يسهل فيها الحصول على المعلومات بمجرد البحث عنها في محرك البحث.
وقتها بدأ ظهور عدد من الموسوعات من هذا النوع، وعلى رأسها مايكروسوفت إنكارتا، الموسوعة الرقمية متعددة الوسائط ومحرك بحث، التي أصدرتها شركة مايكروسوفت العملاقة من عام 1993 إلى عام 2009. كانت تُباع في الأصل على أقراص مضغوطة أو أقراص دي في دي، كما كانت متاحة عبر الإنترنت من خلال اشتراك سنوي، وفيها آلاف المقالات والصور والرسوم التوضيحية، والمقاطع الموسيقية، ومقاطع فيديو، ومحتوى تفاعلي، وجداول زمنية، وخرائط، وأطالس، بل أدوات للواجبات المنزلية.
الفرق بين الخدمتين: بينما يحتوي قرص بريتانيكا على 100 ألف مقال وقاموس ميريام وبستر والمرادفات كما أشرنا، فهو يقدم إصدارات للمدارس الابتدائية والثانوية؛ في المقابل احتوت إنكارتا على 66 ألف مقال ومتصفح مرئي سهل الاستخدام وخرائط تفاعلية، علاوة على أدوات للرياضيات واللغة والواجبات المنزلية وقاموس أمريكي وبريطاني وإصدار للشباب.
في المحصلة حصلت نسخة الأقراص المضغوطة من الموسوعة على جائزة الإنجاز المتميز لعام 2004 من جمعية الناشرين التعليميين. وفي 15 يوليو 2009، حصلت موسوعة بريتانيكا على مكانة واحدة من (أفضل عشر علامات تجارية في المملكة المتحدة) من قبل لجنة تضم أكثر من 2000 مراجع مستقل، كما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية.
ومثل إنكارتا، تعرضت بريتانيكا الرقمية لانتقادات بسبب تحيزها تجاه الولايات المتحدة، حيث يتم تحديث المقالات المتعلقة بالمملكة المتحدة بشكل أقل تكراراً، ويتم رسم خرائط الولايات المتحدة أكثر تفصيلاً من خرائط البلدان الأخرى، وتفتقر إلى قاموس المملكة المتحدة. ومثل بريتانيكا، كانت إنكارتا متاحة عبر الإنترنت عن طريق الاشتراك، على الرغم من إمكانية الوصول إلى بعض المحتوى مجاناً.
لقد بتنا نعيش تحولاً كاملاً، وتراجع الورق ربما إلى غير عودة، وتابعنا المعلومات الخاصة بالإصدارات الرقمية وتطوراتها المختلفة، فقرص الدي في دي في بداياته كان يحتوي على أكثر من 100 ألف مقالة، فضلاً عن الخرائط ومقاطع الفيديو والمقاطع الصوتية والرسوم المتحركة وروابط الويب، علاوة على إدخالات القاموس والمرادفات من ميريام ويبتسر.
أما نسخة الإنترنت فهي بالاشتراك الشهري والسنوي، وتحتوي على أكثر من 120,000 مقالة مع تحديثات وروابط لتقارير إخبارية من نيويورك تايمز وبي بي سي. التطور في هذه الخدمة تابعناه أيضاً عندما أصدرت بريتانيكا امتداد غوغل كروم والذي يعرض مقتطفات من المعلومات عندما يقوم المستخدم بإجراء بحث على غوغل.
خلال التطور الرقمي ومع تطور الهواتف الذكية أعلنت شركة الموسوعة بأنها تعمل مع إحدى شركات البحث في الهواتف المحمولة لإطلاق موسوعة للهاتف المحمول التي تسهل للمستخدمين إرسال سؤال عبر رسالة نصية، ليحصل الباحث على إجابة عن الاستعلام. كما تم التخطيط للميزات الموضعية اليومية التي يتم إرسالها مباشرة إلى الهواتف المحمولة للمستخدمين.
حالياً تقدم بريتانيكا تطبيقاً للهواتف الذكية لمستخدمي أجهزة آي فون، وآي باد وأندرويد، وصُممت هذه التطبيقات لجعل التعلم تفاعلياً وسهل الوصول عبر مختلف الأجهزة. بالإضافة إلى ذلك، توفر بريتانيكا تطبيق موسوعة بريتانيكا العالمية لمستخدمي أجهزة ويندوز، والذي يوفر مجموعة واسعة من المقالات والموارد التعليمية.
الطريف أنني بقدر صعوبة انتقالي من الورق إلى الرقمنة الكاملة، بسهولة شديدة قمت بإهداء النسخة الورقية إلى إحدى المكتبات. حالياً حققت لي النسخ الرقمية من موسوعات البريطانية مزايا عديدة كسهولة وسرعة الوصول، والبحث بسرعة عن المواضيع باستخدام الكلمات المفتاحية، مُوفراً وقتي مُقارنةً بتقليب الصفحات، فضلاً عن ذلك يُمكنني الآن الحصول على معلومات محدثة باستمرار، وبتكاليف أقل للحصول على محتوى غني، يُدمج الصور ومقاطع الفيديو والمقاطع الصوتية مع ميزات تفاعلية، وروابط وإحالات مرجعية، وسهولة التنقل عبر الروابط التشعبية المؤدية إلى مواضيع ذات صلة.
أزيد على ذلك سهولة البحث والتخصيص بأدوات بحث متقدمة، فالفلاتر وتحسينات بحث المستخدمين تساعد على العثور على معلومات محددة بسرعة. أما أهم الميزات فقد أصبحت الموسوعة بلا حاجة للتخزين المادي، فالموسوعة الرقمية لا تشغل مساحة في البيت ولم تعد مصدراً للمشاكل قبل كل عيد عندما تحين ساعة الاستنفار الكونية لنظافة البيت من رأسه إلى قدميه.

ذو صلة