كان من نتيجة سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد سنة 656هـ/1258م، أن أضحت الدولة المملوكية في مصر والشام أكبر قوة إسلامية في هذا العصر، وعلى الأخص بعد استضافتها للخلافة العباسية سنة 659هـ/1261م، وأصبحت تمثل الدولة الإسلامية بامتياز، حيث رعت آخر أكبر تجمع ثقافي إسلامي عربي قبل العصور الحديثة والذي ندين لعلمائه ومفكريه بأغلب معارفنا عن العصور الإسلامية الأقدم. فقد تحول الثقل الثقافي والحضاري للعالم الإسلامي إلى مصر فانتقل إليها عدد غير قليل من علماء الشرق الإسلامي ساعد على ازدهار مناخ علمي أنتج العديد من المؤلفات في فنون متنوعة، إضافة إلى الكتب التي نجت من الهجوم التتري الهمجي الذي أطاح بمكتبات دار الخلافة.. يقول ابن خلدون: (ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت، تناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة، فانتقل شأنها من الخط والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة).
وواقع الأمر أن العدد الأكبر من المصنفات التي أنتجت في هذا العصر كانت مؤلفات نقلية، والقليل منها يمثل أصالة في موضوعه، يأتي على رأسها (مقدمة ابن خلدون) و(المواعظ والاعتبار) للمقريزي.
واشتهر القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي -إلى جانب الحوليات التاريخية التي ألفها مؤرخون من علماء الحديث أمثال: الحافظ الذهبي والحافظ ابن كثير والحافظ البرزالي، وجميعهم من علماء الشام الذين تخرجوا في مدرسة ابن تيمية- بما ألف فيه من (موسوعات) بداية بموسوعة ابن الوطواط الكتبي، المتوفى سنة 718هـ/1318م، ومروراً بموسوعة شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب البكري النويري، المتوفى سنة 732هـ/1332م، وموسوعة شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري، المتوفى سنة 749هـ/1349م، وانتهاءً بموسوعة شهاب الدين القلقشندي، المتوفى سنة 821هـ/1418م، وتعد هذه الموسوعات خير ما أنتجه هذا العصر.
فقد أسفر النشاط الهائل للعلماء المسلمين على مدى عدة قرون عن تأليف عدد ضخم من الكتب في كل حقول المعرفة، حيث إن عمر العالم المختصر لم يكن يكفي لقراءة كل ما كتب في ميدانه، ناهيك عن دراسته. ومن هنا كانت الحاجة إلى طلب الكتب الموسوعية المختصرة، وقد عارض ابن خلدون في (مقدمته) هذه الظاهرة واعتبرها دليلاً على التدهور الذي وصلت إليه الحياة العلمية في عصره.
وظهرت كل هذه الموسوعات في مصر، كتبها عمال وعلماء عصر سلاطين المماليك البحرية بغرض خدمة كتاب الدواوين للاستفادة منها في مجال عملهم، ولكن واقع الأمر أنها أفادت جمهوراً أعظم من المثقفين لأنها عالجت مسائل أعم وأكثر شمولاً في جميع فروع العلم التي يريد المؤلف أن يعرف بها.
والظاهرة الملفتة للنظر أن مؤلفي هذه الموسوعات لم يروا في أنفسهم علماء بل كانوا في حقيقة الأمر كتاباً نابهي الشأن في ديوان الإنشاء المملوكي واكتسبوا خبرة كبيرة في هذا المجال. وأدت وحدة الوسط الذي نشأت فيه هذه الموسوعات إلى تشابهها في الترتيب، وهو ترتيب يعكس أحياناً بوضوح تام أثر التدريب الصارم في الشؤون الديوانية، ويبدو هذا واضحاً أكثر ما يكون في موسوعة القلقشندي (صبح الأعشى).
ويدخل في باب التأليف الموسوعي كذلك كتاب تاريخ عام للعالم الإسلامي يعتمد على ما ورد في المصادر المبكرة والوسيطة مثل ما فعل الذهبي في كتاب (تاريخ الإسلام) ومثل ما فعل ابن خلدون نفسه في كتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر) الذي لم يكتف فقط بتناول التاريخ الإسلامي وإنما وسع مجاله ليشمل تاريخ اليونان والرومان واليهود والفرس، معتمداً على مصادر جديدة مثل: (تاريخ العالم) لباولس أوروسيوس المعروف عند العرب بـ(تاريخ هوروشيوش) و(تاريخ) المكين جرجس بن العميد.
وجاء كتاب (الوافي بالوفيات) لخليل بن أيبك الصفدي، المتوفى سنة 764هـ/1363م كأكبر كتاب تراجم عامة في الحضارة الإسلامية استوعب فيه مؤلفه بتمكن تراجم مشاهير الرجال في السياسة والأدب والفقه والطب وسائر الفنون الذين عاشوا في الدولة الإسلامية حتى منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، ويقع هذا الكتاب في ثلاثين جزءاً.
وألف في هذه الفترة نفسها علاء الدين علي بن أبي الحرم القرشي، المتوفى سنة 687هـ/1288م، أحد أشمل الكتب الموسوعية في الطب هو كتاب (الشامل في الصناعة الطبية) الذي يقع في ثلاثمئة مجلد انتهى ابن النفيس من تبييض ثمانين مجلداً منها أوقفها على البيمارستان المنصوري بالقاهرة.
وأول موسوعات هذا العصر (مباهج الفكر ومناهج العبر) ألفها جمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الكتبي الوراق المعروف بالوطواط، المتوفى سنة 718هـ/1318م. ولم يكن الوطواط من عمال الحكومة الذين مارسوا العمل في دواوينها، بل كان -كما يدل على ذلك لقبه- من المشتغلين بتجارة الكتب ونسخها، يقول عنه الصفدي: (له معرفة بالكتب وقيمها)، و(ملكت بخطه تاريخ ابن الأثير المسمى بـ(الكامل) وقد ناقش المصنف في حواشيه وغلطه وواخذه).
و(مباهج الفكر) موسوعة في العلوم الطبيعية والجغرافيا معروضة بأسلوب أدبي وموضحة بالشواهد من شعر ونثر، وتنقسم إلى أربعة فنون: الفلك والأجرام السماوية، والجغرافيا والأجناس، والحيوان، والنبات. وأهم فصول هذه الموسوعة، الفن الثاني الذي خصصه الوطواط للجغرافيا حيث أمدنا فيه بمعلومات بالغة القيمة عن نظام الزراعة وجغرافية القطر المصري بصفة عامة.
ولعب كتاب (مباهج الفكر) دوراً كبيراً في تطوير نمط التأليف الموسوعي، فقد نقل منه مراراً معاصره النويري واستعار منه طريقة التبويب إلى (فنون) محتفظاً أحياناً بمحتويات الكتاب نفسها وبخاصة في القسم الخاص بالنبات. وللكتاب مختصر عنوانه (نزهة العيون في أربعة فنون) منه نسخة في مكتبة أحمد الثالث بإستانبول برقم 2610 كتبها منصور بن محمد العبادي سنة 987هـ، ولا ندري إن كان هو نفسه المختصر، فالعنوان خلا من اسم مؤلفه.
والموسوعة الثانية هي (نهاية الأرب في فنون الأدب) لشهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب البكري النويري، المتوفى سنة 732هـ/1332م، ويعد النويري خير ممثل للوسط الذي عملت فيه ومن أجله موسوعات عصر المماليك. واستعار النويري من سلفه الوطواط تقسيم كتابه إلى أربعة فنون، وأضاف إليها فناً خامساً هو (التاريخ) وعدل كثيراً في مادة الفن الثاني الخاص بالجغرافيا كما جاءت عند الوطواط.
واستغرق تأليف هذه الموسوعة نحو عشرين عاماً وجاءت في واحد وثلاثين جزءاً كبيراً. ويعد القسم التاريخي فيها أكثر أقسامها قيمة سواءً بالنسبة للفترة التي عاصرها النويري أو للفترات السابقة، فقد نقل النويري نصوصاً كاملة عن مؤلفين لم تصل إلينا مؤلفاتهم، فحفظ لنا بذلك معلومات ما كان يمكننا الاطلاع عليها لو لم يدونها النويري. وحقيقة الأمر أن هذه قيمة كبيرة لمؤلفات عصر سلاطين المماليك، والتاريخية منها على وجه الخصوص، حيث حفظ لنا مؤرخون من أمثال ابن أيبك الدواداري وابن الفرات والمقريزي وأبي المحاسن بن تغري بردي وابن إياس نصوصاً كاملة من مؤلفات ضاعت عنا أصولها اليوم.
أما أهم ما أنتجه عصر سلاطين المماليك فموسوعة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري، المتوفى سنة 749هـ/1349م، ووصفها الصفدي -معاصر ابن فضل الله العمري- بأنها (كتاب حافل ما يعلم أن لأحد مثله). وقسم ابن فضل الله العمري كتابه إلى قسمين كبيرين جعل أحدهما: (في ذكر الأرض وما اشتملت عليه براً وبحراً)، والثاني: (في سكان الأرض من طوائف الأمم). وكل من القسمين ينقسم بدوره إلى أقسام أطلق عليها ابن فضل الله العمري اصطلاحاً (النوع).
ورغم أن مادة موسوعة ابن فضل الله العمري تقتصر على الجغرافيا والتاريخ فقط، بعكس موسوعتي الوطواط والنويري اللتين عالجتا فنوناً أخرى غير الجغرافيا والتاريخ، فإن ثقافة ابن فضل الله العمري تبدو أكثر وضوحاً في موسوعته وفي كتابه الآخر (التعريف بالمصطلح الشريف) عن الوطواط والنويري اللذين يمثل مؤلفاهما مؤلفين نقليين بمعنى الكلمة. فمصنفا ابن فضل الله العمري (المسالك) و(التعريف) يعدان من أهم آثار عصره واعتمد عليها كثيراً مؤرخو عصر المماليك المتأخرين، فيما يخص نظم دولة سلاطين المماليك ورسومها، كما يبدو واضحاً في مؤلفات القلقشندي والمقريزي وابن شاهين الظاهري والسيوطي.
والكتاب مصدر من الدرجة الأولى لدراسة عصر سلاطين المماليك البحرية وعلى الأخص المعلومات التي يوردها عن البلاد التي ربطتها صلات دبلوماسية منتظمة أو متقطعة بدولة سلاطين المماليك. فقد هيأ له عمله الحكومي، ككاتب في ديوان الإنشاء، الاطلاع على الوثائق ولقاء كثير من المسؤولين والسفراء، كما أن مصادر أخباره ومعلوماته متعددة للغاية مما مكنه من إخراج لوحة مفصلة في وصف العالم المعاصر له.
وألف شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علي الفزاري القلقشندي، المتوفى سنة 821هـ/1418م، آخر موسوعة كبرى لعصر سلاطين المماليك. وكما يتضح من عنوانها (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) فإن موضوعها الرئيس هو الكتابة الديوانية. وبدأ القلقشندي تصنيف هذا الكتاب الضخم فور التحاقه بالعمل بديوان الإنشاء في مصر سنة 791هـ/1389م وانتهى من تأليفه في شوال سنة 814هـ/1412م.
وتنقسم هذه الموسوعة إلى مقدمة وعشر مقالات عالج فيها المؤلف كل ما يتعلق بالكتابة والخط وآلاته والمكاتبات وصيغها والنظام الإداري لمصر في العصر الإسلامي، وأورد صوراً للوثائق الصادرة من ديوان الإنشاء عن السلاطين والأمراء إلى غير ذلك من موضوعات مهمة تجعل من الكتاب مصدراً أساسياً فيما يتعلق بالتاريخ والإدارة والحياة الاجتماعية للعالم الإسلامي والأقطار المتصلة به طوال أربعة قرون من القرن الخامس حتى مطلع القرن التاسع للهجرة.
وكان نصيب موسوعة القلقشندي من الاهتمام أوفر وأحسن حالاً من موسوعات عصر سلاطين المماليك الأخرى. فبفضل جهود أحمد زكي باشا أيضاً الذي وفر نسخة كاملة منها لدار الكتب المصرية أخرجت لنا في باكورة منشوراتها نشرة مضبوطة صحيحة لكتاب (صبح الأعشى) صدرت في مطلع القرن العشرين، مما أتاح للعلماء فرصة التوفر على دراستها والاستفادة منها.
وكان وصول عالم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون إلى مصر مع تحول القوى السياسية بها من المماليك البحرية إلى المماليك الشراكسة أو البرجية، حيث أمضى الربع قرن الأخير من حياته (784 – 808هـ/1382-1406م) في كنف السلطان الظاهر برقوق وابنه الناصر فرج، وأهدى للظاهر برقوق الإخراج الثاني من كتابه في التاريخ، وهي النسخة المعروفة بالظاهرية.
وفي الوقت نفسه التف حول ابن خلدون العديد من المصريين النابهين الذين تأثروا بمدرسته في الكتابة التاريخية وتفسيره لأحداث التاريخ، يأتي في مقدمتهم شيخ مؤرخي مصر الإسلامية تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (766-845هـ/ 1365-1442م) الذي ألف العديد من المؤلفات التي تناولت تاريخ مصر الإسلامية منذ الفتح الإسلامي وحتى منتصف القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي مثل (عقد جواهر الأسفاط) و(اتعاظ الحنفا) و(السلوك) و(المقفى الكبير)، ولكن الكتاب الذي كفل له شهرة كبيرة هو دون شك كتابه الموسوعي (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) المعروف باسم (الخطط) الذي يعد أهم كتاب في تاريخ مصر وجغرافيتها وطبوغرافية عاصمتها في العصر الإسلامي، فهو الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا ويقدم لنا -اعتماداً على المصادر الأصلية- عرضاً شاملاً لتاريخ مصر الإسلامية ولتأسيس ونمو عواصم مصر منذ الفتح الإسلامي وحتى منتصف القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ويعد بذلك مصدراً لا غنى عنه للمشتغلين بدراسة آثار مصر الإسلامية من قصور وجوامع ومدارس وخوانق إضافة إلى حارات وأخطاط ودروب عاصمتها القاهرة والفسطاط.
ووصلت إلينا العديد من نسخ هذا الكتاب المهم وبعضها مسودات بخط المقريزي نفسه محفوظة في متحف طوب قابي سراي بإستانبول، وأخرى منقولة مباشرة عن خط المؤلف محفوظة كذلك في مكتبات الفاتح وآياصوفيا بإستانبول إضافة إلى أصل المجلد الثالث من الكتاب كشف عنه مؤخراً في مجموعة يهودا المحفوظة بمكتبة جامعة ميتشيجن بالولايات المتحدة، توفر على جمعها ومقارنتها كاتب هذه السطور وأصدر نشرة نقدية لهذا الكتاب المهم صدرت في لندن بين سنتي 2001 و2004م ثم في نشرة منقحة سنة 2013م.