إن البحث في الموسوعات ودوائر المعلومات هو بحث في طرائق المعرفة وأدواتها، وفي مسالك العقل في التماس الحقائق واستجلاء غوامض الأمور. فقد كانت الموسوعات منذ أقدم العصور زاد الباحث، ومرجع المتحري، ومستودع المدقق في دقائق العلوم والفنون. وكانت تنشأ على مهل، تحت أعين المحققين، وتتوارثها الأجيال كما تتوارث المآثر والذخائر. غير أن رياح العصر لا تجري بما تجري به عهود السالفين، فالموسوعات اليوم ليست كما كانت بالأمس، وقد نزلت بساحتها نوازل العصر الرقمي، فانقلبت أحوالها، وتغيرت طرائقها، وبرزت تحديات جديدة لم يكن الأولون يعلمونها أو يحسبون لها حساباً.
الموسوعات بين الورقي والرقمي
لو سئل أحد من أهل القرن الماضي عن الموسوعات، لما خطر بباله إلا مجلدات ضخمة، مرصوصة على رفوف المكتبات، ينهل منها القارئ حين الحاجة، ويعود إليها الباحث كلما ضاقت عليه سبل المعرفة. غير أن الحال قد تغيرت، إذ لم تعد الموسوعات مقصورة على الورق، بل باتت تقيم في الفضاء الرقمي، تنتشر بلا حدود، وتتجدد بلا انقطاع، ولا تخضع إلا لقوانين الشبكة العنكبوتية وسنن العصر الرقمي.
إن التحول من الورقي إلى الرقمي لم يكن مجرد انتقال من وسيلة إلى أخرى، بل كان تحولاً في طبيعة المعرفة ذاتها. فقد كانت الموسوعات الورقية تخضع لإشراف علمي دقيق، تمر على لجان من الخبراء، وتراجع مرات عديدة قبل أن ترى النور. أما الموسوعات الرقمية، فهي في غالبها مفتوحة للإسهام العام، تتيح لأي فرد أن يكتب ويعدل ويضيف، دونما قيد أو شرط إلا ما يضعه المجتمع الرقمي من ضوابط وقواعد. وهذا الفارق الجوهري بين الموسوعتين هو عين ما أثار الجدل حول مصداقية الموسوعات الرقمية ودقتها.
محركات البحث والموسوعات.. تكامل أم تنافس؟
لقد زاد الأمر تعقيداً مع ظهور محركات البحث، إذ لم تعد الموسوعات هي المصدر الوحيد للمعلومة، بل باتت مجرد واحدة من آلاف المصادر التي يمكن لمحرك البحث أن يستخرجها في لحظة واحدة. وهنا يثور السؤال: هل حلت محركات البحث محل الموسوعات، أم أنها مجرد وسيلة للوصول إليها؟
إن الذي يتأمل في طبيعة البحث الرقمي يدرك أن محركات البحث ليست مصدراً للمعرفة في ذاتها، بل هي أشبه بخريطة تدل الباحث على الطريق، وتضع بين يديه مصادر متعددة للمعلومة، من بينها الموسوعات. غير أن المشكلة تكمن في أن الباحث المعاصر لم يعد يميز بين المصدر الموثوق وغيره، فكثير من الناس يكتفون بالمعلومة الأولى التي تظهر في نتائج البحث، دونما تحقيق أو تمحيص. وهذا ما جعل الموسوعات التقليدية تفقد بعضاً من بريقها، إذ لم يعد القارئ يطيق عناء البحث في مجلدات ضخمة، بل يريد المعلومة السريعة التي يجدها بنقرة واحدة.
واقع الموسوعات العربية في ظل التحول الرقمي
أما في العالم العربي، فالمشهد أكثر تعقيداً. فالموسوعات العربية كانت ولا تزال تعاني من محدودية الانتشار وضعف التحديث. ومع أن بعض المشاريع الموسوعية الرقمية ظهرت في العقود الأخيرة، مثل (الموسوعة العربية) و(الموسوعة الشاملة)، إلا أن هذه المشاريع لم تستطع مجاراة الموسوعات العالمية، لا من حيث الدقة، ولا من حيث الشمول، ولا من حيث التحديث المستمر. ولعل ذلك يرجع إلى قلة الموارد، وضعف التمويل، وتراجع ثقافة الموسوعات في المجتمعات العربية، حيث باتت المعلومة السريعة والمختصرة تغني عن البحث المستفيض.
المستقبل.. هل للورقي مكان في عصر الرقمنة؟
إن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل انتهى عصر الموسوعات الورقية؟ وهل باتت المجلدات الفاخرة من مخلفات الماضي؟ إن الذي ينظر بعين الإنصاف يدرك أن للورق ميزات لا تزال تجعله صامداً في وجه الرقمنة، فأهل التحقيق والتدقيق لا يزالون يرون في الموسوعات الورقية مصدراً أكثر موثوقية، وأكثر ثباتاً، وأقل عرضة للتحريف والتلاعب. كما أن بعض المؤسسات الأكاديمية لا تزال تحرص على اقتناء الموسوعات الورقية، وإن كان ذلك في نطاق ضيق. ومع ذلك، فإن الواقع يشير إلى أن الاتجاه الغالب هو الرقمنة، وأن المستقبل للموسوعات الرقمية، سواء في شكلها المفتوح، كما هو الحال في ويكيبيديا، أو في شكلها المغلق الذي يخضع لإشراف علمي دقيق.
إن الموسوعات، سواء الورقية أو الرقمية، ليست مجرد أوعية للمعلومات، بل هي انعكاس لطبيعة المعرفة في كل عصر. فإذا كان العصر الورقي قد أنتج موسوعات تتسم بالدقة والتحقيق، فإن العصر الرقمي قد أفرز موسوعات تتسم بالسرعة والانفتاح والشمول. والتحدي الحقيقي الذي يواجه المعرفة اليوم ليس في الاختيار بين الورقي والرقمي، بل في إيجاد نموذج جديد يجمع بين دقة الماضي وسرعة الحاضر، بين تحقيق العلماء وانفتاح الجمهور، بين عمق البحث وسهولة الوصول. فإن تحقق ذلك، فقد كتب للموسوعات أن تبقى، وإن لم يتحقق، فقد تكون الموسوعات في طريقها إلى أن تصبح أثراً بعد عين.