تعد فنون الفخار من أكثر الفنون ارتباطاً بتطور الإنسان، الذي بدأ منذ ما قبل التاريخ، حيث عكست الترابط بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والمجتمع، وكانت مظهراً من مظاهر الحضارة، بل هي وسيلتها الأولى للتعبير عن ثقافة وأصالة المجتمع، وقد انبثقت صناعة الفخار المتوارثة من البيئة المحلية وارتبطت بها ارتباطاً وثيقاً، واتخذت حرفة ومصدراً للعيش لكثير من أفراد المجتمع. وتمتاز هذه الحرفة بأنها تراث حضاري يجسم المظاهر الحياتية، والمراحل الحضارية لأي مجتمع نشأت فيه، وهي تعبر عن سلوكيات المجتمع الذي انبثقت عنه المواهب التي ابتكرتها، وأحياناً أخرى تأتي في إبداعات فنية تأخذ مكاناً بارزاً في رغبات الناس لما فيها من جمال فني أخّاذ.
ونحن حين نستذكر حرفة الفخار التي ارتبطت بالذّاكرة، ووجدان الجماعة، فإننا نستذكر واحداً من أهم معالم التراث الفني القديم، المصنوع من مادة الطين، مادة خلق الإنسان، قال تعالى في سورة الرحمن من كتابه المجيد: (خلقَ الإنسان من صلصال كالفخار). وقال تعالى في سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين). فسبحان الخالق الذي جعل مادة البدء، معادلة التركيب لمادة النهاية.
لقد ظلت مادة الطين لصيقة بحياة الإنسان وتاريخ البشرية، إذ إن النقلة الحضارية الأولى التي شهدتها البشرية، جاءت مع ابتكار الفخار، وانتقال الإنسان القديم من استعمال الأدوات البدائية الحجرية إلى استعمال الأدوات الفخارية، التي تعد أقدم ما احترفه الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ. فعندما تم الانقلاب الزراعي وتعلم الإنسان فضيلة التموين وأصبح يفكر في اليوم التالي ابتكر طرقاً ووسائل لحفظ السوائل والحبوب والثمار ومشتقاتها وأدوات للشرب والأكل فتم حينئذ صنع الفخار، الذي تولدت فكرة صنعه من وجود الطين قرب النار الذي شوي وأصبح صلباً.
وقد صنع الإنسان القديم قبل 10000 سنة قبل الميلاد في الشرق الأدنى وبلاد الرافدين فخاره باليد وشواه على نار مكشوفة وسط أكوام القش والحطب وروث البهائم.
وبعد ذلك شهد العصر الحجري الحديث من (8000 - 3000) سنة قبل الميلاد ثورة في صناعة الفخار، حيث تميزت هذه الفترة بظهور أنواع مختلفة منه، مثل (الأحمر، والمزخرف، والمزجج). وبعد ذلك لعبت صناعة الفخار دوراً مهماً في العديد من الحضارات القديمة مثل (الحضارة المصرية والإغريقية والرومانية والإسلامية).
وشهدت العصور الوسطى (من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي) تطوراً في تقنيات صناعة الفخار، حيث ظهرت أنواع جديدة مثل الفخار الخزفي والفخار الصيني. وكان هذا بفضل ابتكار أداة لإدارة الآنية ببطء أثناء تشكيلها فوق منضدة أو قرص أفقي (عجلة) مجهزة بمحور عمودي، فسهل ذلك إنتاج آنية مستديرة متميزة بمزيد من الأناقة وحسن التناسق، ومع العجلة (القرص) كان من الميسور إنتاج أشكال بيضاوية كانت أو أسطوانية. وشهد العصر الحديث تحولات كبيرة في صناعة الفخار، وذلك بفضل وجود الآلات والأفران الكهربائية الحديثة.
لقد ترك الإنسان القديم بصمات حياته ونزوعه نحو التقدم الحضاري، وقد دلت الأبحاث والدراسات على أن الانتعاش الاجتماعي في كل زمن كان ينعكس على الأعمال الفخارية، وعلى صانعي الفخار في أعمالهم الفنية فيبتكرون ويبدعون.
ويرى المؤرخون والعلماء والأثريون، أنه حيثما وجدت مخلفات فخارية باقية من أزمنة قديمة، فإنها دلالة أكيدة على وجود حياة بشرية وأناس متطلعين إلى التطور والتقدم عاشوا في تلك البقعة من الأرض.
الفخار.. تراث سعودي
وضمن هذا السياق تتميز المملكة العربية السعودية بصناعة الفخار، فهو من التراث السعودي القديم في شبه الجزية العربية وبلاد الحجاز، والإنسان السعودي هو ابن الحضارات التي نمت وترعرت على أرضه، وفيها حضارة الأجداد، وحضارة العرب والمسلمين. وهو وارث ميراثها الثقافي والفني المبدع، وبينها إبداعات الفخار التي أصبحت في الزمن الحاضر تعكس اللمسات الإبداعية التي تجذب السياح.
لقد أصبح الفخاري في الحياة السعودية، وبشكل خاص في منطقة الأحساء في قرية القارة، ومنطقة جازان والمدينة المنورة، فناناً شعبياً أصيلاً، يرتبط ارتباطاً حميماً بالجماعة، وهو مجدد ومبتكر كلما واتته الفرص وسمحت له الظروف بإبراز موهبته الفطرية وحسه التلقائي وتعبيره المرهف وأسلوبه المميز، يعمل بكفاءة ومهارة نادرتين عارفاً بأصول حرفته فاهماً لأسرارها، صبوراً راضياً، قنوعاً في تفاعله الخلاق مع المجتمع وحاجاته.
وقد بلغ السعوديون غايتهم في فنون الفخار، حيث أضفوا مهاراتهم في كثير من الأحيان جمالاً جديداً على النماذج التي أبدعوها مثل الأواني من أكواب وصحون وأباريق وقدور وأزيار ومباخر ومزهريات وفوانيس. ووجدوا لخيالهم مجالاً أفسح وأرحب للإبداع.
كما أدركوا، من خلال ما أنتجوا، مدى أهمية جمال الحس في الراحة البصرية والنفسية، لذلك جمعوا في تلك الأعمال بين المنفعة المادية والتعبير الجمالي، وربطوا الفن ربطاً محكماً بالحياة اليومية، لذلك بات من الواجب تطويره إذا أردنا أن تكون نظراتنا لتراثنا منطلقة من منطق حضاري.
كما أن الحرف اليدوية التقليدية المتوارثة عن الأجداد والنابعة من روح الجماعة، ومزاج عبقريتها، هي في طريقها إلى الزوال ما لم يتم الانتباه للفنان التقليدي وتشجيعه، ورعايته، ودعمه، وإيجاد الأماكن المناسبة لممارسة هوايته وتسويق إبداعاته. لأن هدف هذا الفنان هو المحافظة على تراث أجداده، وخدمة المجتمع الذي ينتمي إليه، ولذلك فإن وظيفته أن يعبر عن روح جماعية وتضامنية، وهذا يخالف الروح الفردية التي تسود الفن الأوروبي الحديث، كما يعكس الترابط والالتحام الوثيق بين الإنسان والمجتمع والإنسان نفسه.
هذا هو فن الفخاريات الذي امتزج منذ بدء الحياة على الأرض في حياة البشر امتزاجاً يوازن في الفن بين الجمالية والمنفعة، فهو تعبير حي على أن الفن للحياة ولخدمة الحياة، وبقي متوارثاً عبر الأجيال يتزايد الاهتمام به من جيل إلى جيل حتى دخل ضمن أنماط الأداء الفني الشامل، حيث أخذت المناهج الفنية تهتم به، مضيفة إليه التطورات واللمسات العصرية، وأصبح له مكانة مرموقة في مجال التخصصات الفنية الحديثة في المعاهد وكليات الفنون، حيث برز وتولد عنه فنانو الخزف والسيراميك المعاصرون.
لقد ظل هذا الفن ينتسب إلى جذوره الأهلية، وبخاصة فيما يتعلق بمادته الأولى المأخوذة من الأرض، وهي مادة الطين.
وقبل أن نختم لا بد من الإشادة بالمبادرة التي أطلقتها المملكة العربية السعودية باعتبار ( 2025 عام الحرف اليدوية)، ترسيخاً لمكانة الحرف اليدوية بوصفها تراثاً ثقافياً أصيلاً وتعزيزاً لمزاولتها، وصونها، واقتنائها، وتوثيق قصصها، وحضورها في حياتنا المعاصرة.