مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

الفخار التصق بحياة الإنسان وعكس حضارته

تعد فنون الفخار من أكثر الفنون ارتباطاً بتطور الإنسان، الذي بدأ منذ ما قبل التاريخ، ‏حيث عكست الترابط بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والمجتمع، وكانت مظهراً من مظاهر ‏الحضارة، بل هي وسيلتها الأولى للتعبير عن ثقافة وأصالة المجتمع، وقد انبثقت صناعة الفخار ‏المتوارثة من البيئة المحلية وارتبطت بها ارتباطاً وثيقاً، واتخذت حرفة ومصدراً للعيش لكثير ‏من أفراد المجتمع. وتمتاز هذه الحرفة بأنها تراث حضاري يجسم المظاهر الحياتية، والمراحل ‏الحضارية لأي مجتمع نشأت فيه، وهي تعبر عن سلوكيات المجتمع الذي انبثقت عنه ‏المواهب التي ابتكرتها، وأحياناً أخرى تأتي في إبداعات فنية تأخذ مكاناً بارزاً في رغبات الناس ‏لما فيها من جمال فني أخّاذ. ‏
‏ ونحن حين نستذكر حرفة الفخار التي ارتبطت بالذّاكرة، ووجدان الجماعة، فإننا نستذكر ‏واحداً من أهم معالم التراث الفني القديم، المصنوع من مادة الطين، مادة خلق الإنسان، قال ‏تعالى في سورة الرحمن من كتابه المجيد: (خلقَ الإنسان من صلصال كالفخار). وقال ‏تعالى في سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين). فسبحان الخالق الذي ‏جعل مادة البدء، معادلة التركيب لمادة النهاية. ‏
‏ لقد ظلت مادة الطين لصيقة بحياة الإنسان وتاريخ البشرية، إذ إن النقلة الحضارية الأولى ‏التي شهدتها البشرية، جاءت مع ابتكار الفخار، وانتقال الإنسان القديم من استعمال الأدوات ‏البدائية الحجرية إلى استعمال الأدوات الفخارية، التي تعد أقدم ما احترفه الإنسان منذ ‏عصور ما قبل التاريخ. فعندما تم الانقلاب الزراعي وتعلم الإنسان فضيلة التموين وأصبح ‏يفكر في اليوم التالي ابتكر طرقاً ووسائل لحفظ السوائل والحبوب والثمار ومشتقاتها وأدوات ‏للشرب والأكل فتم حينئذ صنع الفخار، الذي تولدت فكرة صنعه من وجود الطين قرب النار ‏الذي شوي وأصبح صلباً. ‏
‏ وقد صنع الإنسان القديم قبل 10000 ‏‎سنة قبل الميلاد في الشرق الأدنى وبلاد الرافدين ‏فخاره باليد وشواه على نار مكشوفة وسط أكوام القش والحطب وروث البهائم.
وبعد ذلك شهد العصر الحجري الحديث من (‏‎8000‎‏ - ‏‎3000‎‏) سنة قبل الميلاد ثورة في صناعة الفخار، ‏حيث تميزت هذه الفترة بظهور أنواع مختلفة منه، مثل (الأحمر، والمزخرف، والمزجج). وبعد ‏ذلك لعبت صناعة الفخار دوراً مهماً في العديد من الحضارات القديمة مثل (الحضارة المصرية ‏والإغريقية والرومانية والإسلامية). ‏
‏ وشهدت العصور الوسطى (من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي‏) تطوراً في تقنيات صناعة الفخار، حيث ظهرت أنواع جديدة مثل الفخار الخزفي والفخار ‏الصيني. وكان هذا بفضل ابتكار أداة لإدارة الآنية ببطء أثناء تشكيلها فوق منضدة أو قرص ‏أفقي (عجلة) مجهزة بمحور عمودي، فسهل ذلك إنتاج آنية مستديرة متميزة بمزيد من الأناقة ‏وحسن التناسق، ومع العجلة (القرص) كان من الميسور إنتاج أشكال بيضاوية كانت ‏أو أسطوانية. وشهد العصر الحديث تحولات كبيرة في صناعة الفخار، وذلك بفضل وجود ‏الآلات والأفران الكهربائية الحديثة. ‏
‏ لقد ترك الإنسان القديم بصمات حياته ونزوعه نحو التقدم الحضاري، وقد دلت الأبحاث ‏والدراسات على أن الانتعاش الاجتماعي في كل زمن كان ينعكس على الأعمال الفخارية، ‏وعلى صانعي الفخار في أعمالهم الفنية فيبتكرون ويبدعون. ‏
‏ ويرى المؤرخون والعلماء والأثريون، أنه حيثما وجدت مخلفات فخارية باقية من أزمنة قديمة، ‏فإنها دلالة أكيدة على وجود حياة بشرية وأناس متطلعين إلى التطور والتقدم عاشوا في تلك ‏البقعة من الأرض. ‏
الفخار.. تراث سعودي
وضمن هذا السياق تتميز المملكة العربية السعودية بصناعة الفخار، فهو من التراث ‏السعودي القديم في شبه الجزية العربية وبلاد الحجاز، والإنسان السعودي هو ابن الحضارات ‏التي نمت وترعرت على أرضه، وفيها حضارة الأجداد، وحضارة العرب والمسلمين. وهو وارث ‏ميراثها الثقافي والفني المبدع، وبينها إبداعات الفخار التي أصبحت في الزمن الحاضر تعكس ‏اللمسات الإبداعية التي تجذب السياح. ‏
‏ لقد أصبح الفخاري في الحياة السعودية، وبشكل خاص في منطقة الأحساء في قرية القارة، ‏ومنطقة جازان والمدينة المنورة، فناناً شعبياً أصيلاً، يرتبط ارتباطاً حميماً بالجماعة، وهو مجدد ‏ومبتكر كلما واتته الفرص وسمحت له الظروف بإبراز موهبته الفطرية وحسه التلقائي وتعبيره المرهف وأسلوبه المميز، يعمل بكفاءة ومهارة نادرتين عارفاً بأصول حرفته فاهماً لأسرارها، ‏صبوراً راضياً، قنوعاً في تفاعله الخلاق مع المجتمع وحاجاته. ‏
‏ وقد بلغ السعوديون غايتهم في فنون الفخار، حيث أضفوا مهاراتهم في كثير من الأحيان ‏جمالاً جديداً على النماذج التي أبدعوها مثل الأواني من أكواب وصحون وأباريق وقدور وأزيار ‏ومباخر ومزهريات وفوانيس. ووجدوا لخيالهم مجالاً أفسح وأرحب للإبداع. ‏
‏كما أدركوا، من خلال ما أنتجوا، مدى أهمية جمال الحس في الراحة البصرية والنفسية، ‏لذلك جمعوا في تلك الأعمال بين المنفعة المادية والتعبير الجمالي، وربطوا الفن ربطاً محكماً ‏بالحياة اليومية، لذلك بات من الواجب تطويره إذا أردنا أن تكون نظراتنا لتراثنا منطلقة من ‏منطق حضاري. ‏
‏كما أن الحرف اليدوية التقليدية المتوارثة عن الأجداد والنابعة من روح الجماعة، ‏ومزاج عبقريتها، هي في طريقها إلى الزوال ما لم يتم الانتباه للفنان التقليدي وتشجيعه، ‏ورعايته، ودعمه، وإيجاد الأماكن المناسبة لممارسة هوايته وتسويق إبداعاته. لأن هدف هذا ‏الفنان هو المحافظة على تراث أجداده، وخدمة المجتمع الذي ينتمي إليه، ولذلك فإن وظيفته ‏أن يعبر عن روح جماعية وتضامنية، وهذا يخالف الروح الفردية التي تسود الفن الأوروبي ‏الحديث، كما يعكس الترابط والالتحام الوثيق بين الإنسان والمجتمع والإنسان نفسه. ‏
‏هذا هو فن الفخاريات الذي امتزج منذ بدء الحياة على الأرض في حياة البشر امتزاجاً يوازن ‏في الفن بين الجمالية والمنفعة، فهو تعبير حي على أن الفن للحياة ولخدمة الحياة، وبقي ‏متوارثاً عبر الأجيال يتزايد الاهتمام به من جيل إلى جيل حتى دخل ضمن أنماط الأداء الفني ‏الشامل، حيث أخذت المناهج الفنية تهتم به، مضيفة إليه التطورات واللمسات العصرية، ‏وأصبح له مكانة مرموقة في مجال التخصصات الفنية الحديثة في المعاهد وكليات الفنون، ‏حيث برز وتولد عنه فنانو الخزف والسيراميك المعاصرون. ‏
‏ لقد ظل هذا الفن ينتسب إلى جذوره الأهلية، وبخاصة فيما يتعلق بمادته الأولى المأخوذة من ‏الأرض، وهي مادة الطين. ‏
‏وقبل أن نختم لا بد من الإشادة بالمبادرة التي أطلقتها المملكة العربية السعودية باعتبار ( ‏‎2025‎‏ عام الحرف اليدوية)، ترسيخاً لمكانة الحرف اليدوية بوصفها تراثاً ثقافياً أصيلاً وتعزيزاً ‏لمزاولتها، وصونها، واقتنائها، وتوثيق قصصها، وحضورها في حياتنا المعاصرة. ‏

ذو صلة