تضطلع الحرف التقليدية بأهمية كبيرة في تعزيز التراث الثقافي والفني للشعوب، بفضل الاستشراف الإستراتيجي والبناء التنموي لهذه الحرف، فهناك رؤية واضحة تتجلى في الالتفاف حول أهمية الاستشراف الإستراتيجي في هذا المجال وهي الرؤية المستقبلية طويلة الأمد للحفاظ على الحرف والصناعات التقليدية، وذلك من خلال تحقيق تكامل مثمر بين هذه الفنون التقليدية والتقنيات الحديثة.
فمن الممكن أن يساهم استخدام التكنولوجيا في تطوير قطاع الفنون الحرفية وتوسيع خيارات التعبير الفني، مما يؤدي إلى تعزيز الابتكار والتفاعل بين الحرفيين والجمهور، ومن هذا المنطلق يمكن أن يشكل الاستشراف الإستراتيجي دوراً مهماً في تعزيز تطور وازدهار هذه الحرف.
وقد ارتبطت الحرف التقليدية دائماً بمدى الازدهار الاقتصادي واهتمام الدول بتأكيد هويتها من خلال منتجات حرفها التقليدية وصناعاتها الحرفية المختلفة التي تبرز تلك الهوية مما يستلزم توافر جمع من الحرفيين المهرة في مختلف أفرع الفنون الحرفية.
ومما لا يدع مجالاً للشك أن الاهتمام بإلقاء الضوء على الحرف التقليدية في الوقت الراهن له مدلول مهم لدى المشتغلين بالتراث -لاسيما المهتمون منهم بقضايا المجتمع- إذ أن هذا الاهتمام يعكس محاولة جادة للتحرر من حدود الزمان والسير في أغوار ذاكرة التاريخ العربي لاستلهام الماضي العريق حينما كانت هذه الحرف هي الركيزة الصناعية الرئيسية.
ويعكس الاهتمام بدراسة البناء التنموي للحرف التقليدية والصناعات الحرفية تلك الرغبة الواعية في استمرار تواصل الخبرة الإنسانية وعدم انفصالها عن ماضيها، فإذا كان للحرف النصيب الأكبر في تشكيل الحضارات القديمة وبناء الهوية الثقافية للمجتمعات؛ فإن الحضارات الحديثة لا تزال في أمس الحاجة في الوقت الراهن لمن يدعم تلك الحرف التقليدية بما تؤديه من دور اجتماعي واقتصادي يتماشى مع ما تأخذ به من آليات التطور التقني في الصناعات الحديثة. وعندما يتكامل الاهتمام بالحرف التقليدية وما تقوم به من دور في تطوير المجتمع جنباً إلى جنب مع الاهتمام بالصناعات المؤسسية فسوف تزدهر حضارات الدول العربية بشكل عام، حيث لا يمكن النهوض بالحرف التقليدية من أجل تحقيق التنمية الذاتية إلا في ظل سياسات ملائمة تعمل من ناحية على توفير الآليات اللازمة لتوجيه تكيف هذا القطاع الحيوي من الاقتصاد القومي في ظل الظروف القائمة، وتعمل من ناحية أخرى على حشد وتوجيه الموارد والجهود بما يتفق مع تعظيم الاستفادة من هذا القطاع في التنمية الذاتية للمجتمعات المحلية.
وتنعكس أهمية التنمية المستدامة للحرف التقليدية في بعض المنتجات الحرفية ذات الدلالة على جوانب الهوية الوطنية للدولة المنتجة للحرف والصناعات اليدوية حيث تساعد قطاع الحرف التقليدية على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للحرفيين وذلك بتوفير فرص عمل للرجل والمرأة، واكتساب المهارات الفنية والتقنية، وتلبية متطلبات السكان من السلع والخدمات، كما تساعد قطاعات الحرف التقليدية والصناعات الحرفية في رفع الدخل وبالتالي المستوى المعيشي لأبناء المجتمعات العربية.
وتختلف العوامل المؤثرة على تنمية الحرف التقليدية في تحقيق برامج التنمية طبقاً لاختلاف الظروف والبيئة المحيطة، وكذلك الحرف التقليدية التي تدخل ضمن برامج التنمية، على سبيل المثال إدخال تصميمات حديثة ومبتكرة لتطوير المنتج، واستخدام وسائل تسويقية جديدة للإعلان عن المنتج، واستخدام تقنيات حديثة لتطوير وتحسين المنتج، وتحفيز دور المرأة في العمل بالحرف التقليدية.
وقد أصبح هناك ارتباط وثيق بين قطاع الحرف التقليدية وقطاع السياحة، فالروابط بين السياحة والحرف التقليدية أمر واقع ومنشود، إذ أصبحت الحرف عنصراً فعالاً في جذب السياح، وهكذا أصبحت السياحة تستفيد من جودة الحرف وتنوعها، في حين أصبح طلب السياح على المنتجات الحرفية من العوامل الأساسية لتنشيط الحرف التقليدية.
ومن هنا يمكن التأكيد على نقطة التواصل والإلهام الحضاري في كثير من المنتجات الحرفية التقليدية التي تمتاز بطابعها الخاص، لتكون مصدراً تكميلياً وأداة جذب للسائحين من خلال مساهمتها في التعريف بالخصائص البيئية لكل منطقة واستعراض عاداتها وتقاليدها، حيث تساهم هذه الحرف في التنمية السياحية كما تساهم السياحة في تنمية هذه الحرف، فهناك علاقة تبادلية بين القطاعين، ولاستغلال المنتجات وفق خصوصياتها المحلية والحضارية لتطوير وتنمية السياحة من خلال البيئة والشكل والعلاقة التبادلية التي تجمع بينهما، يتطلب الأمر صقل البراعة والمهارة اليدوية.
فالزائر الأجنبي -أياً كان نوع السياحة التي يمارسها- لا يغادر البلاد دون أن يحمل معه تذكاراً يعبر عن البلد التي يزورها، فقطاع الحرف التقليدية والسياحة يعدان من العناصر الأساسية في نشر التراث والثقافة، وأن وجودهما وبقاءهما أمران حيويان للحفاظ على الهوية الثقافية، وذلك بالتكيف مع متطلبات العصر، دون التفريط في مميزات الأصالة.
وتعد الصناعات الحرفية والحرف التقليدية إحدى أهم مقومات نهوض الجذب السياحي، مما يعزز أهمية التركيز على المعارض الدولية من خلال تفعيل أطر الترويج والتعريف والجذب السياحي للمنتجات الحرفية، فالحرف التقليدية اليوم لها قيمة سياحية مع تصاعد الكثير من المنتجات التي في متناول جميع فئات السياح لما تتميز به من جودة المنتج والسعر الملائم.
وهناك العديد من الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية الذين امتلكوا ناصية الريادة، فأعطوا أهمية كبيرة للحرف التقليدية والسياحة في برامجهم التنموية وخصصوا لها اعتمادات مالية مكنتهم من تسويق خدماتهم السياحية وحرفهم التقليدية وفق ما يتطلبه تسويق الصادرات، مما جعلها في نمو متسارع، وفي إطار العمل على دفع عجلة التنمية الاقتصادية تسعى باقي الدول العربية التي لها عناصر جذب سياحية مميزة إلى تعظيم إيراداتها من هذا النشاط، والتي أصبحت أهميتها تتعدى الأنشطة الاقتصادية الأولية.
وقد أدى التراجع في استخدام منتجات الحرف التقليدية في الأسواق العربية إلى تراجع أعداد الحرفيين العاملين بهذه الحرف، وكذلك عدم تعليم الحرف للأجيال التالية، ونرى أن الحرفي له دور كبير في عملية التنمية واستدامة الحرف حيث إنه يقوم بنقل خبراته للأجيال التالية، كما أنه يحدد معوقات ومشكلات الحرفة، بالإضافة لاقتراح بعض الحلول للنهوض بكل حرفة. فالحرفي يقدم نموذجاً للإبداع، وهو الأعمق ارتباطاً بأنماط التنمية التي تستهدف الحرفي وما يقوم به من منتجات الحرف التقليدية، كما أن التنمية تجسد ما يسمى بالاعتماد على الذات، وذلك من خلال النمط الإبداعي في المنتجات الحرفية، لأن إبداع الجماعات في الشعوب العربية يمكن أن يغير ما يسمى بـ(الحد الأدنى) لإشباع الحاجات الأساسية الذي يحوله إبداعهم إلى حد أدنى نسبي ومتحرك، فالحرفيون هم نتاج البيئة الاجتماعية التي فرضت عليهم أن يكون إبداعهم من أجل البقاء.
وباختصار، فإن تعليم الحرفيين يتطلب التوجيه المناسب، بالإضافة إلى توفير الدعم والتدريب المستمر. كما يمكن أن يساعد توظيف التقنيات الذكية في تحسين جودة وكفاءة منتجات الحرفيين وتعزيز قدرتهم على التنافس في السوق، وذلك تأكيداً على استدامة الحرف التراثية في عالمنا العربي.