ظلّت الحرف اليدوية على مرّ العصور، بمكوناتها الإنشائية المتنوّعة، ودلالاتها الرمزية والتعبيرية، من أندر الشواهد على إمكانات إنسان ما قبل التاريخ وقدرته على تحسين شروط التكيّف مع إملاءات الحياة، والاستجابة لتحدّياتها التي ابتكر معها أدواته المعيشيّة بروافع جماليّة وثقافيّة.
لا تنحصر أهميّة الحرف اليدوية التي ابتدعها إنسان ما قبل التاريخ على امتداد العصور الحجرية، في وظيفتها العمليّة المقرونة بمتطلبات حياته اليوميّة فقط، وإنما تجلّت أهميتها بما وفّرته أيضاً، من سيل المعلومات الهائل الذي أتاحته لعلماء الآثار والأنثربولوجيا في التعرّف على أقدم التجمعات البشريّة المستقرة التي جمعت بين مزيج الزراعة و(الصناعة) والرعي في العصر الحجري الحديث (8500 - 4500 ق.م.). إضافةً إلى الأهمية التي أتاحتها الحرف اليدوية إبان تلك العصور، في الكشف عن فرادة القيم التعبيريّة والتقنيّة والجماليّة التي حازتها بنيتها التكوينيّة والإنشائيّة، والتي تُمثّل في خلاصتها الماديّة والروحيّة، عصارة مجتمعات توفّرت على مستوياتٍ عاليةٍ من الاستقرار والرقي والرفاه، وذلك قبل الشروع في تدوين سجلات التاريخ.
ما يدلّل على ذلك ويؤكده، على سبيل المثال لا الحصر، تلك المجموعات من الحرف اليدويّة التي عُثر عليها مصادفةً في قرية عين غزال (10 كيلومترات شرق العاصمة الأردنيّة - عمّان) خلال عملية شقّ الطريق السريع بين عمّان ومدينة الزرقاء قبل نحو نصف قرن، وكانت النتيجة اكتشاف قرى زراعية ظلّت مأهولة بشكل متواصل على امتداد حوض وادي الزرقاء لأكثر من ثلاثة آلاف عام حتى منتصف الألفية الخامسة قبل الميلاد، والتي تمثل نهاية العصر الحجري الحديث المتأخر/ ما قبل الفخاري.
الحرف اليدويّة التي عُثر عليها في بيوت قرية (عين غزال) بمعمارها ومرافقها ومؤثثاتها المتنوعة، شكّلت مدخلاً مهماً للتعرّف على النمط البيئي للقرية ومنظومتها الاجتماعية، وأعرافها وتقاليدها وإنجازاتها، وهو ما أشارت إليه البقايا الأثرية للبيوت والشوارع وغرف التخزين والمعابد والمدافن، وأكدته أساليب الحرفيين في تصنيع أدواتهم ومعداتهم، وتمكّنهم من تحويل المواد الطبيعية إلى موادٍ مصنّعةٍ غير مسبوقة.
لم يتوقف إنسان (عين غزال) عند المُعطى الوظيفي للحرف اليدوية التي صنّعها من أدواته الحجرية وسخرها لخدمته المعيشية، بل شرَع بما حقّقه من رفاهٍ واستقرارٍ في تجويد مواده وتقنياته، وتطويعها إنشاءً وتركيباً، بما يخدم معتقداته الدينية وتطلعاته الجماليّة في التمثيل والتعبير. وبالتزامن مع إضافته الجمالية والتعبيرية التي وشّح بها أدواته الحجريّة وتماثيله ودُماه البشرية والحيوانية، ظل إنسان العصر الحجري على صلة مباشرة مع الجانب الوظيفي لمصنوعاته النحتية المرتبطة بالزراعة والصيد، مثل الأطباق ومدقّات الحبوب والمجارش المصنّعة من الحجارة البازلتية والجيرية، إضافة إلى تصنيعه الفؤوس والسكاكين وشفرات المناجل من الحجارة الصوانية. وفي مراحل متقدمة صنع الجرار والكؤوس وأواني الطهو من الصلصال.
وجود العديد من المقتنيات والأواني والأقنعة والدمى الطينية والحجريّة التي عُثر عليها في مدافن (الغزاليين) الذين يقدّر عددهم في منتصف الألفية الثامنة قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف نسمة، عزّز الاعتقاد بشيوع معتقدٍ دينيٍ لدى أهالي تلك المنطقة، وإيمانهم بالبعث بعد الموت، وهو ما جسّدته تصوراتهم لدورة الحياة ممثلةً بالخصب والولادة.
العديد من الدمى الحيوانية والرسومات على الأواني والأدوات الحجرية، مثّلت الأبقار وقد غُرست في أجسادها الشفرات والسكاكين الصوانية، إشارة إلى تقديمها قرابين للآلهة. فيما صَوّرت جلّ الدمى الآدمية موضوعات الخصب التي تُنسب إلى الآلهة الأم، بوصفها نموذج الرغبة الجماعية في تجدّد الحياة واستمرارها. وتُعدُّ دمية (فينوس) عين غزال من أهم دمى المجموعة الطينية، إضافةً إلى طيفٍ واسعٍ من تماثيل العصور الحجرية التي أطلق عليها علماء آثار ما قبل التاريخ اسم (فينوس) الذي يشير إلى الأم الكبرى في تلك العصور، استناداً، أو تيمناً، بآلهة الخصب والجمال (ڤينوس) الرومانية التي تقابلها (أفروديت) الإغريقية.
طوال مسيرة الإنسان مع الحرف اليدوية عبر العصور، لم تنفصل الأغراض الوظيفية عن القيم الجمالية والتعبيرية التي التحمت مع بنية المادة ومع نسيجها التكويني، وظلّ ذلك التلازم على الدوام وثيق الصلة بثقافته وتطلعاته لتحسين شروط حياته الجمالية والمعيشية على السواء. وهو ما شهدته الحضارات القديمة، مثل الحضارة المصرية والإغريقية والرومانية، من تطورٍ طال جلّ تقنيات الحرف اليدوية عكست القيم الثقافية لشعوب تلك الحضارات. وتواصل التطورات المتسارعة التي شهدتها تلك الحرف على جميع المستويات في العصور الوسطى والعصر الحديث، والتي أصبحت معها الحرف اليدوية وسيلة للتبادل الاقتصادي بين الشعوب، وأصبحت إلى جانب أبعادها الوظيفية والجمالية، جزءاً أصيلاً من التراث المادي والثقافي للبشرية.
ظلّت قيم الأصالة والتفّرد والابتكار من العلامات الفارقة التي صبغت الحرف اليدوية على مر العصور. كما شكّلت إفادتها وتنافذها مع الفنون التشكيليّة والتطبيقية عامةّ، صناعةً وتركيباً وتعبيراً، مكانتها الفارقة التي أصبحت تتبوأها اليوم على امتداد مسيرتها عبر عشرات آلاف السنين، وذلك حين تجاوزت الإطار السكوني للحرفة ومخرجاته التي ارتبطت بـ(ثقافة تصنيع الأدوات) وتكوين الأشكال البدائية المحوّرة والمستوحاة من الطبيعة، إلى إطار ثقافة تصنيع المادة، وخلع خصائصها العملية والحسّيّة على جسد المادة، وصولاً إلى امتزاجها وتذويبها في إيقاع التعبير والتشكيل.