مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

الحرف اليدوية جسر بين التراث والسياحة الثقافية

تُعدّ الحرف اليدوية أحد أبرز المظاهر الثقافية التي تعكس هوية الشعوب وتاريخها، فهي ليست مجرد أدوات إنتاجية، بل تمثل إرثاً حضارياً متوارثاً يعكس الإبداع والفنون التقليدية. وفي ظل العولمة وتغير أنماط الاستهلاك؛ برزت الحاجة إلى إعادة إحياء هذه الحرف، ليس فقط للحفاظ على التراث، بل أيضاً لأنها مورد اقتصادي يعزز من السياحة الثقافية. في هذا السياق، تسهم الحرف اليدوية في إثراء تجربة السائح، وربط المجتمعات المحلية بالسوق السياحي العالمي، مما يجعلها ركيزة أساسية في التنمية المستدامة.
تُعتبر الحرف اليدوية جزءاً أساسياً من تجربة السياحة الثقافية، حيث يبحث السياح عن التجارب الأصيلة التي تمنحهم فرصة التفاعل المباشر مع المجتمعات المحلية. فالأسواق التقليدية، وورش العمل الحرفية، والمهرجانات التراثية؛ كلها تشكل منصات حيوية تتيح للزوار فرصة استكشاف الفنون التقليدية واقتنائها.
فعلى سبيل المثال، تُعد صناعة الفخار في الأحساء من أقدم الحرف التي ما زالت تمارس حتى اليوم، حيث يتميز الفخار الأحسائي بدقة التصنيع والزخرفة اليدوية. كذلك، تبرز صناعة السدو في مناطق نجد، وهي حرفة تراثية مهمة، تعكس الثقافة البدوية، حيث يتم استخدام الصوف في حياكة السجاد والمفروشات التقليدية. كما أن صناعة البشوت في الأحساء تعد من الفنون الحرفية التي تحظى بسمعة عالمية، إذ تُحاك من الخيوط الذهبية والحريرية وتستخدم في المناسبات الرسمية رمزاً للأصالة والفخامة.
إضافةً إلى ذلك، تسهم الأسواق التراثية، مثل سوق الزل في الرياض، وسوق العينية في المدينة المنورة، وسوق الطائف التراثي، وسوق القيصرية في الأحساء؛ في استقطاب السياح وتعريفهم بالحرف اليدوية المحلية. وتتميز هذه الأسواق بتصاميمها التقليدية وأجوائها التراثية التي تعكس أصالة الثقافة المحلية، حيث يجد الزوار مجموعة متنوعة من المنتجات مثل المشغولات الفضية، العطور التقليدية، السجاد اليدوي، السيوف والخناجر المزخرفة، والملابس التراثية المطرزة يدوياً. كما تعد هذه الأسواق مراكز ثقافية وسياحية تدعم الحرفيين المحليين، وتعزز من تجربة السياحة التراثية في المملكة.
تُبرز المملكة العربية السعودية الحرف اليدوية من خلال دمجها في الفعاليات الكبرى والمناسبات الوطنية، مما يسهم في تعزيز الهوية الثقافية وجذب السياح، كما يساهم في دعم الحرفيين المحليين وإبراز التراث الحي للمملكة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك:

السجاد البنفسجي:
أطلقت المملكة مبادرة السجاد البنفسجي للمناسبات الرسمية، وهو مستوحى من لون زهرة الخزامى التي تعكس تراث الطبيعة السعودية. هذه المبادرة تعد رمزاً للأصالة وتعزز الهوية الثقافية، حيث يتم تزيين السجاد بعناصر مستوحاة من الحرف اليدوية التقليدية، مثل التطريز التراثي والنقوش الزخرفية المستوحاة من العمارة السعودية القديمة.

الزي السعودي في المهرجانات:
يتم الترويج للحرف التقليدية من خلال اعتماد الزي الوطني السعودي في الفعاليات الكبرى، مثل يوم التأسيس واليوم الوطني. ويُشجَّع الحضور على ارتداء الملابس التقليدية مثل الدقلة، البشت، والثوب النجدي المطرز يدوياً، مما يسهم في دعم الحرفيين الذين يعملون في مجال التطريز والنسيج اليدوي. كما أن بعض الفعاليات بدأت تتبنى تصاميم حديثة مستوحاة من الأزياء التراثية، مما يعزز الارتباط بين الحرف التقليدية والموضة العصرية.

مهرجان نور الرياض:
وهو مهرجان عالمي للفنون الضوئية يسلط الضوء على الحرف اليدوية السعودية عبر ورش عمل وعروض حية للحرفيين. وخلال المهرجان، تُعرض المشغولات الخشبية المزخرفة، والنقوش التقليدية على الجلود، وصناعة السبح اليدوية، مما يمنح الزوار فرصة فريدة لاكتشاف الفنون التقليدية بطريقة معاصرة.

فعاليات العلا الثقافية:
تشتهر محافظة العلا بكونها مركزاً ثقافياً يدمج التراث بالحاضر، حيث يتم إقامة أسواق تراثية تعرض المنتجات الحرفية المحلية مثل السجاد اليدوي، المجوهرات الفضية المنقوشة، الفخار المزخرف، ونقوش الأحجار. إلى جانب ذلك، تُقام ورش عمل تفاعلية تتيح للزوار التعرف على طرق صناعة الحرف التقليدية، مما يخلق تجربة تفاعلية تربط الماضي بالحاضر.

كأس الملك للفروسية:
لا يقتصر الحدث على سباق الخيول فحسب، بل يُعد منصة ثقافية تعكس تراث المملكة. وخلال الفعالية، يتم إبراز الحرف اليدوية المتعلقة بالفروسية، مثل صناعة السروج اليدوية، تطريز الملابس التقليدية الخاصة بالفرسان، والنقوش المعدنية على السيوف والخناجر. كما يتم تقديم معارض للحرف التراثية المرتبطة بالبيئة البدوية، مما يعزز التفاعل بين السياحة الثقافية والفروسية التراثية.

مهرجان الجنادرية:
يُعد من أهم الفعاليات التراثية في المملكة، حيث يتيح للحرفيين من مختلف المناطق فرصة عرض منتجاتهم التقليدية وتعريف الزوار بتقنيات التصنيع الحرفي القديمة. وفي المهرجان، يمكن مشاهدة الحرفيين وهم يعملون على حياكة السدو، وصناعة الفخار، ونقش الفضة، والخط العربي التقليدي، مما يخلق بيئة حية تحاكي الأسواق التراثية القديمة.

تعتبر السياحة الثقافية المستندة إلى الحرف اليدوية وسيلة فعالة لتحقيق التنمية المستدامة، إذ تخلق فرص عمل للسكان المحليين، وتعزز الاقتصاد الإبداعي، وتقلل من الآثار البيئية مقارنة بالسياحة التقليدية. وفي مناطق مثل العلا والدرعية، يتم دمج الحرف اليدوية في المشروعات السياحية الكبرى، مما يوفر للحرفيين مصادر دخل مستدامة، ويشجع على إعادة إحياء المهن التقليدية.
كما تساهم المبادرات الداعمة للحرفيين، مثل البرامج التدريبية التي تنظمها هيئة التراث والأسواق الرقمية التي توفر منصات للحرفيين لبيع منتجاتهم إلكترونياً؛ في تمكين المجتمعات المحلية من التكيف مع التحديات الاقتصادية، وضمان استمرار هذه الفنون للأجيال القادمة.
ورغم الفوائد العديدة للحرف اليدوية في دعم السياحة الثقافية، إلا أنها تواجه تحديات عديدة، منها: ضعف الترويج، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وغياب الإستراتيجيات الفعالة للحفاظ عليها. كما أن دخول المنتجات المقلدة إلى الأسواق يؤثر على الأصالة والجودة، مما يقلل من قيمة المنتجات اليدوية الأصلية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني بعض الحرف من قلة الأيدي العاملة والمهرة بسبب تراجع الاهتمام بتعليمها للأجيال الجديدة.
في المقابل، هناك العديد من الفرص الواعدة لتطوير قطاع الحرف اليدوية ضمن السياحة الثقافية، مثل دمج التكنولوجيا في تسويق المنتجات الحرفية عبر المنصات الرقمية، وتطوير مشاريع تعاون بين الحرفيين والمصممين المعاصرين لابتكار منتجات تناسب الأسواق العالمية. كما أن دعم الحكومات من خلال سياسات ثقافية وتشجيع الاستثمار في المشاريع الحرفية يعزز استدامة هذا القطاع، ويفتح مجالات واسعة للتوسع والنمو.
ورغم التحديات، هناك العديد من الفرص التي يمكن استغلالها للنهوض بهذا القطاع، من ذلك:
1. دمج الحرف اليدوية في الفعاليات الكبرى: من خلال مهرجانات مثل الجنادرية، موسم الرياض، مهرجان العلا الثقافي؛ يمكن تسليط الضوء على الحرف التقليدية ورفع الوعي بأهميتها.
2. استخدام التكنولوجيا في التسويق: إطلاق متاجر إلكترونية محلية وعالمية للحرف اليدوية، وربطها بمنصات التسوق العالمية؛ سيمكن الحرفيين من الوصول إلى جمهور أوسع.
3. إقامة ورش عمل وتجارب سياحية تفاعلية: يمكن تطوير برامج تتيح للسياح تجربة صناعة الفخار، نقش الخشب، أو حياكة السدو بأنفسهم، مما يعزز ارتباطهم بالتراث الثقافي.
4. التعاون مع المصممين والعلامات التجارية العالمية: يمكن إعادة إحياء بعض الحرف التقليدية عبر إدخال تصاميم عصرية تتناسب مع الأذواق الحديثة، مما يسهم في زيادة الطلب على هذه المنتجات.
5. دعم الحكومة والهيئات المختصة: من خلال توفير برامج تدريبية للحرفيين الشباب، وتقديم حوافز مالية، ودعم المعارض الحرفية على المستويين المحلي والدولي.
إن الحرف اليدوية ليست مجرد أدوات إنتاجية، بل هي مرآة تعكس تاريخ الشعوب وتراثها العريق. وعبر توظيفها بذكاء في قطاع السياحة الثقافية، يمكن تحقيق منافع اقتصادية وثقافية مستدامة تعود بالنفع على المجتمعات المحلية والسياح على حد سواء. إن تعزيز السياحة الثقافية من خلال الحرف اليدوية يتطلب إستراتيجيات شاملة تجمع بين الحفاظ على التراث والترويج السياحي والاستدامة الاقتصادية، مما يضمن استمرار هذه الفنون لتكون مصدر إلهام للأجيال القادمة. ومن خلال دعمها عبر السياسات الحكومية والمبادرات المجتمعية، يمكن لهذه الحرف أن تظل عنصراً محورياً في التنمية الثقافية والاقتصادية للمملكة العربية السعودية.

ذو صلة