مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

الشعر.. الماضي الزاهي.. والحاضر المقلق

ليس الحديث عن رتبة أو مكانة، بل عن زمن يمر به الإنسان، وفي كل عصر حياة تختلف، فيطوفها طائف من القوة أو من الضعف، ولذلك ونحن نقرأ للشعراء القدامى، نجدهم يتبارون في الإتيان بالمعاني الفريدة، والكلمات الواضحة الشاعرة، آخذين حذرهم من النقاد وأصحاب المجالس، فلهم أعين ناقدة، وعين الناقد بصيرة أو كما يقال، وما كان للشعر أن يتطور ويتألق في تلك العصور إلا بسبب التمحيص والتدقيق، الذي يلحق به من لدن أصحابه، لأن اللغويين قد أصبحوا سدنة الشعر في عصرهم وحراسه، فمن نوهوا به طار اسمه ومن لوَّحوا في وجهه خمل وغدا نسياً منسياً (1).
ولأن هذا الواقع، فلقد كان الشعراء يعرضون أشعارهم على من يرون قبل إنشادها في المحافل العظام، فإن استحسنوها مضوا في إنشادها، وإن لم عادوا لتمحيصها وتدقيقها، فمن ذلك ما يروى أن مروان بن أبي حفصة (105 - 182هـ) لما نظم قصيدته التي منها: (2)
طَرَقَتكَ زائِرَةٌ فَحَيِّ خَيالَها
    بَيضاءُ تُخلِطُ بِالحَياءِ دَلالَها
قادَت فُؤادَكَ فَاِستَقادَ وَمِثلُها
    قادَ القُلوبَ إِلى الصِبا فَأَمالَها
وَكَأَنَّما طَرَقَت بِنَفحَةِ رَوضَةٍ
    سَحَّت بِها دِيَمُ الرَبيعِ ظِلالَها
ذهب إلى حلقة يونس النحوي، وعرض القصيدة عليه فقال له إنها بريئة من العيوب، ثم أنشدها أمام (المهدي)، وعلى أثرها أمر له بمئة ألف درهم كانت تمثل أول عطاء بهذا الحجم في أيام بني العباس.
إذاً الشعراء كانوا تحت طائلة النقد من أجازه النقاد مضى، ومن لا، فقد خمل، قال الخليل بن أحمد الفراهيدي لابن مناذر: (إنما أنتم أيها الشعراء تبع لي، إن أجزتكم نفقتم وإلا كسدتم...(3)).
السؤال: أين نحن في عصرنا هذا من أولئك؟
إن هناك مسافة زمنية طويلة تفصل بيننا وبينهم، فهم قد عاشوا ألق اللغة وألق الفكر وألق الشعر، بينما نحن نعيش عصراً مختلفاً في كل شيء، فنحن نعيش عصر العولمة، وقد اختلطت الأمم بعضها مع بعض، وأصبحت اللغات والاهتمام بها في مرمى القصية.
كما نعيش تحوّل الثقافة إلى ثقافة فردية، بعيدة عن تلك الأماكن التي تصقل المواهب، وبالتالي، فقد أصبحنا كلنا شعراء، وكلنا كتّاباً، وكلنا أدباء حتى الجاهل منا، والذي يناقش في كل ميادين المعرفة.
صحيح أننا نحمل مؤهلات، ولكنها أشبه بسند ليس إلا، ولا مكان لها في عالم العلم إلا عند القليل بين كم كبير في مختلف هذا العالم الرحب، صحيح أن هناك من بنى له مجداً في عالم الشعر وعالم الكتابة، ولكنه يمثل عدداً قليلاً في خضم عالم متلاطم، ممن يَدَّعي العلم والمعرفة، وهؤلاء قلة ممن ينطبق عليهم ما قاله أحدهم عن شعراء المغرب (الأندلس): واعلم أن المتأخرين وإن تأخّر زمانهم عن المتقدمين، فقد زاحموهم بالرَّكب، وكادوا أن يرقوا إلى أعلى الرتب، مثل خالد بن يزيد الإشبيلي الذي قال في وصف السفن، حيث أتى بمعان لم يسبق إليها (4):
إذا نُشرت في الجو أجنحة لها
    رأيتَ به روضاً ونوراً مكمما
وإن لم تهِجْه الريح جاء مصافحاً
    فمدَّ له كفاً خضيباً ومعصما
مجاديف كالحيَّات مَدَّت رؤوسها
    على وجلٍ في الماء كي تروي الظّمأ
كما أسرعت عَدَّاً أناملُ حاسب
    بقبض وبسط يقبضن العين والفما
هي الهدب في أجفان أكحل أوطفٍ
    فهل صنعت من عندم أو بكت دما
إن حالة المبدع في هذا العصر كحال من قال عنه صاحب (سلافة العصر) (5) وحديثه عن المتأخر المبدع في زمانه: وإذا كان لكل زمان رجال ولكل حلبة مضمار ومجال، فغير بدع أن برزت الأواخر بالبديع الفاخر، وأزجت فلكها المفاخر في بحر الفضل الزاخر:
إن ذاك القديم كان حديثاً
وسيبقى هذا الحديث قديماً
على أن تأخر الزمان لا ينافي التقدّم في الإحسان، فقد يتأخر الهاطل عن الرعد، والنائل عن الوعد، ... ، وأنا أقول كذلك، فقليل الشعراء الذين نجدهم قد يغني عن الكثير والكثير..، فلكل عصر رجاله، على أن عصرنا هذا يختلف كثيراً عن العصور السابقة لعدم وجود الرمز وتواريه خلف الكم الكثير والكثير..، وكذلك ما فعلته الأيام من تغيِّر وتغيير في الذوق الأدبي، فذوقنا له دوره في إظهار الزائف من القول، إذ توارت المجالس العلمية التي توجّه وتسدّد، كما توارى الأديب أمام من يَدَّعي الأدب المتواضع، ومن المعلوم أننا هنا لا نقصد (التواضع) ذاك الذي يدفع صاحب الموهبة للسؤال والاستفسار، ليكون مثل ابن عباس رضي الله عنه الذي سئل بما أدركت العلم: فقال: بلسان سؤول، وقلب عقول.. وبدن غير ملول! لأن السؤال يكشف لك عن أشياء تبدو غائبة عن فهمك وعقلك، فيرشدك المجاوب عنما خفي عليك.
إن الأدباء في هذا العصر ومنهم الشعراء كل يعمل على موهبته بطريقة ذاتية، ومعلوم أن الذاتية قد تنجح وقد تخفق، فلا يصقل المواهب إلا السؤال في مكان علم أو دارة نقاش. أما وقد قلَّ المتسائلون، وقَلَّ العالمون، فقد أصبحنا نعيش في عصر متلاطم لا يعرف أوله ولا آخره مع تغيِّر في الأذواق، وتعدّد في الأنواع، ولذلك فلا نعلم إلى أين إبداعنا سائر، وعند الله الخبر.


1-2-3 - انظر: العصر العباسي الأول. د. شوقي ضيف، دار المعارف، ط12، ص140.
-4 انظر: الريحانة، ط1، ج2، بتحقيق عبدالفتاح الحلو، ص 469 ومابعدها..
-5 ابن معصوم صاحب السلافة، وقد نُقل هذا الكلام بواسطة دعد يونس السالم في مقال منشور في (مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية) العدد 66، وعنوانه: (جهود النقاد في الموازنة بين الشعراء في العصر العثماني)، وهي تصدر في الجزائر عن مركز جيل للبحث العلمي.

ذو صلة